ثقافةصحيفة البعث

اسْتِباحَة

 

بشرى الحكيم

في عصر التكنولوجيا والفضائيات التي تحررت حتى من ورقة التوت، في هذا الزمن بتنا جميعاً معرضين للاستباحة، بل لعلنا نحن كذلك بالفعل، خصوصاَ أنها فتحت منابرها على مداها الأوسع أمام “المبدعين” أنّى كانت توجهاتهم وميولهم، ما جعلنا نقف وجهاً لوجه أمام معارف جديدة مختلفة مخيفة وبعيدة كل البعد عن ثقافتنا، والخوف ليس على الأجيال الحالية بل الخوف على القادم منها، ولعله بات علينا الخشية على كينونة المجتمعات الآتية. والأمر ليس بالمستبعد أو المستغرب طالما أن البرامج والمادة المعروضة والقائمين عليها يدخلون جميعهم سباقاً ومنافسة حادة مع الآخرين للاستحواذ على أقصى ما يمكن من اهتمام المشاهدين دون البحث في الأثر المحدث، هذا إلا إذا كان الهدف تعليب الأجيال وجعلها صورة عن الآخر، وهو في أفضل الأحوال يدفع المتلقي إلى اعتياد أعمال العنف والقتل، بينما الحرص كل الحرص ينصب على الأرقام التي تسجلها شركات تشرف على إحصاء أعداد المتابعين على مدار الساعة.
هنا لا بد من الخشية على الأحفاد في مستقبل سوف يضعهم في مأزق تعاريف جديدة، لمعنى كلمة “الأم” وصورتها، ومعنى “الأب” وهيئته هو الآخر، بينما يفتح هواء شاشة فضائية لمدة تقارب الساعتين من الزمن لمن اختار الارتباط بشخص مثيل في الجنس، ويعدان المخططات المستقبلية سوية لإنجاب طفلهما الخاص تحت راية الحرية الشخصية وقوانين أقرتها بعض الدول وعبارة “أنا هيك”.
بتنا نخشى على أبنائنا من التحول إلى وحوش آدمية بينما يحرص بعض مبدعي الدراما على تقديم مشاهد العنف والقتل وعمليات الانتقام الفردية والتوحش الآدمي بأجمل صورة وأفضل حبكة درامية وأروع أداء، بذريعة أنها تجسيد لواقع معاش ورجاء للخلاص منه، صوراً مثيرة لإعجاب شباب يقودهم العنفوان والتوق لإثبات وجودهم على خارطة الوطن من خلال التمثل بما يقدم لهم: ما أجمل الانتقام وما أجمل السلطة؟!
في كتابه “تاريخ القبح” يصنف أمبرتو إيكو القبح ويؤرخ له ويتوقف ملياً عند تجربة بودلير وتريستان، وصولاً إلى أعمال فنانين طغت عليها البشاعة كالإرث الذي تركه مونش ودالي وبيكون، والتي برغم أنها أعمال مدهشة تماماً تدفع المرء للقول ما أجمل هذا القبح، لكنها بقيت في نظر إيكو نوعاً من “ترف القبح” في عصر اختار أن يطلق عليه “عصر انتصار القبح”. ولعلنا اليوم ونحن نشهد الأمر في يومياتنا وقد تحولت الشاشات على امتداد العالم العربي إلى مهرجانات من التقليد الأعمى والفجور، يحق لنا طرح السؤال: إلى أي مدى يحق للمبدع تجميل البشاعة؟
في سبيل فهم أعمق لماهية القبح والتوحش ومعنى الجمال أيضاً ربما يحتّم علينا المنطق التوقف عند مفاصل تاريخية معينة مهما بلغت من البشاعة. لكن هل يعطينا ذلك الإذن بالتسويق والترويج لها؟!
إلى أي مدى يحق للإعلامي تسويق ثقافة يشك في أنها تشكل خطراً على مستقبل الأجيال إن لم نقل مستقبل البشرية؟! والأهم هو الإجابة على سؤال: ما المعنى في أن نكون نسخاً مكررة عن الآخر، بينما نمتلك من الاختلاف كل ما يجعلنا متميزين إن عملنا على أن “نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا، ونحن والآخر نعلم ونعرف أن فيها كل علم وفلسفة وفن في العالم”؟!.