الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شرشف قصب (7)

 

 

د. نضال الصالح

وكان محمّد يعني ما يعني الموت وما يعني نقيضه الحياة، القتل شهوةً في رؤية الدم، والقتل الذي يعني انبعاث الحياة بالجمال، وردّد بصوت تسمعه بثينة: “عينان سوداوان في جحريهما / تتوالد الأبعادُ من أبعادِ”، ثمّ قال: “هذا المساء، في الثامنة إن كان الوقت مناسباً”.
في الثامنة تماماً كان محمّد يقرع جرس الباب، وكان والد بثينة هو من فتح له وكان في استقباله وهو بمطلق أناقته، وكذلك كانت أمّ بثينة، كما كان بطرس، شقيق بثينة الوحيد. ولم يكد محمد يستريح في المقعد الوثير إلى جوار أبي بطرس، ويلتقط بعض أنفاسه وعيناه تمسحان محتويات غرفة الاستقبال المترفة بذوق عال كما بدا له، والباهظة الثمن ما مِن ريب كما حدّثَ نفسه، حتى بدأت أم بثينة الحديث قائلة: “أهلاً وسهلاً فيك يا ابني، لا حديث لبثينة كلّ سهرة غيرك، وإذا لم تكن تتكلّم عنك، فتكون مشغولة عنا بالقراءة”، وسارع أبو بطرس إلى القول: “طوبى لبثينة بك”.
وقعتِ الكلماتُ الأخيرة على رأس محمّد كما يباغت أحداً ارتطامُ شيء كبير من علٍ بالأرض، ولم يكن بحاجة ليعرف بعد تلك الكلمات أنّ بثينة حدّثت أسرتها عنه، وعن سبب زيارته، فقال: “أتشرّف عمّو أبو بطرس”، فردّ أبو بطرس: “ونحن نتشرّف يا ابني”، ثمّ تابع: “لكما، بثينة وأنت، حريّة ما ترون مناسباً”، وكان يعني عقد القران بينهما في المحكمة الشرعية، أمّا أمّ بثينة، فبادرت إلى القول: “فليباركما الربّ ويحرسكما”، ثمّ باعد أبو بطرس بين راحتيه، وقلبَ باطنيهما إلى الأعلى، وسأل محمداً: “ألن تقرأ الفاتحة؟”.
بين ما يشبه البرزخ كان محمّد، بين ما رأى وسمع وما لم يكن يقدّر أنه سيرى ويسمع، وعندما قرأ أبو بطرس في صمته الطويل ما يومئ بذلك، بل ما يجهر به، أعاد المباعدة بين راحتيه، وقلبَ باطنيهما إلى أعلى، وأخذ يقرأ الفاتحة بنفسه بصوت مسموع، فازداد محمّد دهشة على دهشة وحيرة على حيرة، وتمنّى لو أنّ أحداً ما يرمّد نار الأسئلة التي اتّقدتْ في رأسه، بل يعينه على إجابة عن أيّ منها، لكأنّه لم يكن محمد الذي يعرف عن نفسه، محمد الذي أفنى وقته وماله في اللهاث وراء المعرفة معظم نهاراته وكثيراً من لياليه، وكان ثمّة سؤال يتصدّر تلك الأسئلة: “من أيّ ظلمات أنتم يا الظلمات؟”، وكان يقصد أصحاب الرايات السود الذين دهموا السويداء فجر ذلك اليوم من تموز، وتابع لنفسه: “يا أبناء الظلام، هذه سورية التي لا تعرفون”.
في صباح اليوم التالي كانت المحكمة الشرعية القديمة في شارع النصر تفتح ذراعيها لشاب يمضي نحو الثانية والثلاثين من العمر، وشابة تقرع أبواب الثامنة والعشرين، وبعد أن أتمّ القاضي الشرعي الإجراءات اللازمة لعقد الزواج في مثل حال محمّد وبثينة، أوقف محمّد سيّارة أجرة، وطلب إلى سائقها قائلاً: “القصّاع إذا سمحت”، وعندما سأله السائق: “أين في القصّاع؟”، قال: “كنيسة الصليب”، وهو يردّد لنفسه ما كان سمع ذات يوم في كنيسة القرية المجاورة لقريته: قدّسهما أيّها الروح القدس، آمين.