تحقيقاتصحيفة البعث

التربية الخاصة بالمتفوقين إضاءة على واقع الحال.. هموم ومنغصات.. وكوادر بشرية تعمل رغم الظروف الصعبة

تغيرت نظرة الدول المتحضرة نحو المتفوقين، لاعتبار أنهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، ويتمتعون بقدرات عقلية، ومعرفية، ونفسية، وانفعالية، واجتماعية مغايرة لما هو موجود لدى الأقران العاديين، لذلك توسع اهتمام المجتمعات الإنسانية بتعليم وتأهيل أفراد هذه الفئة انطلاقاً من الفكرة التي تقول: “إن تنمية قدرات الطلبة المتفوقين هي أفضل استثمار في رأس المال البشري، وإن عوائده الاقتصادية في المستقبل تفوق ما ينفق عليه في الحاضر”، فتعليم الطلبة المتفوقين وفق حاجاتهم الخاصة يساهم في إعدادهم للمشاركة في تقدم مجتمعاتهم، وزيادة مستوى كفاءتهم وفاعليتهم في حل مشكلاتها الاقتصادية، والصناعية، والزراعية، والثقافية، والإنسانية عموماً.

الطلبة المتفوقون

أسامة بكر، طالب في الصف الأول الثانوي بمدرسة المتفوقين في القنيطرة، أكد أن أهم مشكلة يعاني منها هي نقص الكادر التعليمي المتميز والقادر على العطاء بتفان بما يتوافق مع ما لديه من قدرات عقلية خاصة، فالأزمة السورية أدت إلى خسارة الكثير من المعلمين الأكفاء، أو سفر بعضهم الآخر، بالإضافة إلى زيادة عدد الطلبة في الصف الدراسي نتيجة ظروف الحرب، وحالة التهجير القسري من المناطق غير الآمنة، وتعطل الدوام المدرسي في الأشهر الماضية، وإغلاق المدارس بسبب القذائف التي كانت تتساقط على الأحياء والمدارس، وفي السياق ذاته أكد ولي أمر الطالب الأستاذ أحمد بكر، المختص في رعاية المتفوقين في مديرية تربية ريف دمشق، أن الطلبة المتفوقين خلال الأزمة السورية عانوا عدة مشكلات سببت لدى بعضهم مشكلات في سوء التوافق الشخصي، والاجتماعي، والتعليمي بسبب التهجير من المنزل، أو فقدان معيل الأسرة، ما سبب مشكلات اقتصادية مفاجئة وضعت على عاتق الطالب المتفوق إذا كان هو المعيل الوحيد.

واقع الحال

وللبحث في واقع العمل ضمن مدارس المتفوقين، بيّن الأستاذ زياد إبراهيم، مدير مدرسة المتفوقين بدمشق، أن سر نجاح العمل الحالي يكمن في صمود المدرّسين، وإصرارهم على تقديم أفضل ما لديهم رغم الظروف الصعبة، فمعظم المدرّسين القائمين على رأس عملهم هم مهجّرون من أماكن إقامتهم الأصلية، ومواظبون على عملهم بشرف وأمانة، ويتابعون كل ما هو جديد في مجال رعاية المتفوقين، ومن ناحية البنية التحتية أكد إبراهيم أن البناء الحالي مجهّز بكل مستلزمات العملية التربوية: (مخابر، صالة رياضية، مسرح، صالة كمبيوتر، غرفة موسيقا، غرفة عرض)، وبكافة الوسائل التعليمية المتطورة، وبمدرّسين مؤهلين للتعامل مع تلك التجهيزات والوسائل، كما تم توزيع الساعات التدريسية بشكل يتناسب مع الحاجات الخاصة للطلبة المتفوقين من جهة، ومع طبيعة المنهاج من جهة أخرى، وعن دور المرشد النفسي في مدارس المتفوقين بيّن إبراهيم أن متابعة الحالة النفسية والانفعالية للطلبة المتفوقين هي جانب مهم لنجاح العمل، فهناك مرشد مدرسي متخصص له غرفة خاصة مجهزة بمعظم مستلزمات العملية الإرشادية، ولكون المدرسة مختلطة: (ذكور، إناث)، فقد اقترح إبراهيم وجود مرشدة نفسية تبحث في المشكلات الخاصة بالطالبات الإناث، وفي سؤال حول مشكلة الكثافة الطلابية في الصف بيّن إبراهيم أن الكثافة الصفية المرتفعة هي نتيجة طبيعية لظروف الأزمة، وخروج عدد من مدارس المتفوقين عن الخدمة، لاسيما في المحافظات غير الآمنة، وبسبب تحقيق الكثير من الطلبة لمعايير التفوق، ما أدى إلى زيادة الكثافة الصفية من (15 إلى 30) طالباً قبل سنوات الحرب، لتصل إلى (35 أو 36) طالباً حالياً، وذلك نتيجة الحلول الإسعافية التي قدمتها وزارة التربية لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلبة المتفوقين، وتجاوز الظروف السيئة وفق الإمكانات المتاحة.

إضاءات مهمة

الأستاذ ماهر خير بك، مدير مدرسة المتفوقين باللاذقية، قدم إضاءات مهمة لبعض النواحي الإيجابية والسلبية عن رعاية الطلبة المتفوقين، كتوفر كادر بشري مؤهل ومتخصص ذي خبرة طويلة في مجال التدريس ولمختلف المراحل التعليمية، فخبرة كل مدرّس أو معلم تتجاوز الـ (15) سنة، وتم انتقاؤهم بعناية فائقة، وقد قدم هذا الكادر التدريسي في سنوات الحرب جهوداً حميدة ومكثفة ساهمت في تحقيق معظم الخطط المرسومة من قبل وزارة التربية، وهم يخضعون لدورات تدريبية مكثفة أثناء الخدمة في مجالات متعددة، وعن العملية الإرشادية أكد خير بك أن متابعة الحالة النفسية والانفعالية للطلبة المتفوقين هي جزء مهم من نجاح الخطط المرسومة، وقد أعطي المرشد المدرسي كافة المستلزمات الضرورية لنجاح العملية الإرشادية: (حجرة خاصة، مقاييس، سجلات تتبعية..)، وحرية كافية للبحث في مشكلات الطلبة المتفوقين النفسية، والانفعالية، والاجتماعية، والأسرية، والتي يجب أن تتمتع بالسرية الكاملة، وبإشراف الإدارة المدرسية، أما المنغصات التي قد تعيق عمل المدرّسين عند تخطيط تلك الأنشطة الإثرائية وتطبيقها، كتحديد ساعات التدريس ببرنامج دراسي مقيد، وتحضير الدرس بشكل مسبق، فإن المناهج الجديدة مطورة وتدرس لأول مرة، كما أن السنة الدراسية الأولى لتطبيقها تشير إلى عدم خبرة المدرّسين بها، مع أن تلك العوائق ستزول تدريجياً من عام دراسي لآخر، وعن الطموحات والآمال المستقبلية أكد خير بك أن البنية التحتية الحالية للمدرسة تتطلب مزيداً من التجهيزات والمساحات الخضراء، فالبناء الحالي غير مخصص لتعليم المتفوقين، وهناك حاجة لمسرح، وملعب، وصالة لممارسة الأنشطة الفنية، ومخابر مجهزة وفق المعايير الدولية، كما تعتبر الكثافة الصفية عائقاً يحول دون توزيع جهد المعلم بما يتوافق مع الحاجات الخاصة بالطلبة المتفوقين، مع ضرورة توفير وسائل تعليمية تفاعلية تحقق الأهداف التربوية والتعليمية بنسبة إنجاز مرتفعة، وتوفير حوافز للمعلمين والمدرّسين تشجعهم على بذل جهود مضاعفة، وتساهم في تخطي صعوبات الحياة المعيشية.

منغصات

الأستاذة مزكين عبد الله، مديرة مدرسة المتفوقين بالحسكة، أشارت إلى بعض المنغصات التي طالت سير العملية التربوية والتعليمية، فالظروف الأمنية السيئة أدت إلى نقل مدرسة المتفوقين ليكون جزء منها مدمجاً مع الثانوية التجارية، ما أدى إلى صعوبات عديدة في الإدارة، كون مدرسة المتفوقين تغطي مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، ورغم تلك الظروف السيئة فقد أثنت عبد الله على مستوى الصلابة النفسية والانفعالية للطلبة المتفوقين، وإصرارهم على تحقيق مزيد من التفوق، بالتزامن مع الجهود النوعية المبذولة من الكادر التعليمي والتدريسي الذي قدم في السنوات الماضية عملاً مكثفاً رغم الظروف والإمكانيات المتواضعة، وبتعاون وتوجيه من مديرية التربية بالمحافظة التي كانت تتابع عن كثب واقع الحال، وتقدم الحلول الإسعافية بزمن قياسي، إلا أن هذه الجهود المشكورة لا تمنع من وجود بعض العوائق كعدم وجود مرشد مدرسي يتابع مشكلات الطلبة النفسية، والانفعالية، والاجتماعية، والأسرية، فقد كانت الإدارة المدرسية ولاتزال تمارس هذا الدور الإرشادي بالتعاون مع أولياء الأمور والمدرّسين، أما فيما يتعلق بمعايير القبول فقد أكدت عبد الله على ضرورة توفر معايير أخرى أكثر موضوعية، لتطال جوانب أخرى من شخصية الطالب المتفوق: (سمات شخصية، ذكاء انفعالي واجتماعي، تكيف، تقدير الذات..)، وألا يقتصر امتحان سبر المعلومات على الجوانب التحصيلية فقط، بل لابد للقدرات العقلية (الذكاء) أن تغطي نسبة تتجاوز (50%) من مفردات هذا السبر، وفيما يتعلق برعاية مواهب الطلبة المتوفين، وميولهم وقدراتهم العقلية والمعرفية، أكدت عبد الله أن ظروف الأزمة الحالية حالت دون متابعة النشاطات البحثية، والمشروعات اللاصفية، والرحلات العلمية، وساهمت في توقف معظمها، والتي كانت حاضرة بقوة قبل الأزمة السورية، كما تم التأكيد على ضرورة توفر الحوافز المادية والمعنوية للمعلمين والمدرّسين العاملين في مجال رعاية المتفوقين لتشجيعهم على بذل مزيد من الجهود.

تقييم الوضع

لوحظ مما سبق وجود جهود مضاعفة مهمة ونوعية لرعاية الطلبة المتفوقين في عدد من المحافظات السورية، والتي تلمّسنا منها بعض نقاط القوة، وتمت الإضاءة على بعض عوامل الضعف، إلا أن التقييم الموضوعي يشير إلى جهود عظيمة تسطّر بماء من ذهب لجميع العاملين في مجال رعاية المتفوقين، لكن الآمال والطموحات في مرحلة إعادة الإعمار تبقى أكبر، والسلطات التربوية ممثّلة بوزارة التربية مدعوة لبذل مزيد من الجهود، والتعاطي مع المقترحات التي قدمت لتطوير العمل باهتمام وإرادة لتجاوز تلك العوائق وغيرها، وتحقيق واقع أفضل للطلبة المتفوقين، وبما يلبي حاجاتهم الخاصة.

حسام سليمان الشحاذه