ثقافةصحيفة البعث

“بحر الدموع وأرض الشموع”.. حكايات اللاجئين السوريين

 

لأن البحر الأبيض المتوسط ابتلع مئات السوريين من مختلف الأعمار، فكتمت مياهه ابتساماتهم واستقرت في قاعه أجسادهم وأصبحت أحلامهم زبد أمواجه. ولأن الكاتبة سهام يوسف واحدة من بين آلاف النساء السوريات تبكي أعزاء فقدناهم، وأحبة لم نعد نراهم، ولأننا نشعل الشموع احتراماً لذكراهم ونرفع الصلوات لتزهر دماؤهم انتصاراً لسورية وترف في جنة الخلد أرواحهم، كتبت الكاتبة يوسف صفحات “بحر الدموع وأرض الشموع” –إصدار وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب” يمكن تسميته قصصاً واقعية وحكايات موروثة وأحداثاً عاشتها وعايشتها، سمعتها ونقلتها، باحت ببعضها وكتمت بعضها، فجاءت قاسية مؤلمة أحياناً، ومستبشرة متفائلة أحياناً أخرى في جهد لتلمس أحلام المستقبل وأمانيه، فقسوتها وألمها من قسوة السبع العجاف التي ألّمت بسورية، واستبشارها من أنها تؤكد أن إنسان الأرض السورية يحمل إرث تاريخه بين حناياه مفتخراً بماضيه متفائلاً بمستقبله، مؤكداً أنه سينهض من كبوته وسيمحو آثار السبع العجاف ليكون حصاد مستقبله بيادر عطاء وبناء، وسلال غلاله مليئة بالمحبة والسلام.

كتبت يوسف صفحات “بحر الدموع وأرض الشموع” بيد ارتجف القلم مراراً بين أصابع كفها المرتعشة يمدها بالقوة نبض قلب اعتصره الألم والحزن كثيراً وهي تخط ما تحتويه من حالات إنسانية سمعتها وتأثرت بها، فكان ألمها وحزنها مضاعفاً: “فكم حزنت وبكيت وأنا أستمع إلى الأشخاص الذين ألهموني كتابتي؟ وكم تكرر ألمي وبكائي وأنا أعيد كتابة ما تحدثوا به أمامي بكل أمانة وصدق؟ حتى أنني حاولت أن أجسد وأنقل وأصور مشاعرهم بالأحرف والكلمات وكم أشعلت الشموع لأجلهم ولذكرى أطفال تحدث عنهم أب أو أم، قضوا نحبهم وهم ينشدون طريق الخلاص؟”.

خطّت هذه السيدة السورية الأصيلة هذا الكتاب وهي تعي تماماً ماذا يعني أن يكون الإنسان سورياً؟ ربما هنا تكمن شعرية هذا الكتاب، على الرغم من أنه ليس كتاب شعر بل حكايات وقصص يمتزج فيها القديم بالجديد، وما هو واقعي بما هو أسطوري وما يجري هنا وما يقال هناك، إنه سرد مفتوح بعيد عن الحذلقات يذهب بنا إلى مركز المأساة السورية. إنه نمط من القصص والأخبار التي تتوالد مثل التداعي، حادثة تستدعي حادثة جديدة تعتمد عادة على المصادفة، يربط بينها رابط نفسي أو حكائي. هذا النوع من القص منح الكاتبة مرونة في الانتقال من موضوع إلى آخر كما وفر لها ضمير المتكلم “الراوي” حرية أن تقول كل شيء من مشاهداتها ومن ذاكرتها ومن المرويات التي سمعتها عن جدتها أو عن أمها أو أي شخص آخر، هنا يتكثّف الزمان والمكان في هذه الطريقة من السرد الحكائي، ومما يدهش أيضاً هذا المزج الذكي بين الحادثة والتقرير، وهذه الوقائعية التي تبلغ حداً يوازي التقرير الصحفي. والوقائعية هنا تسقط أي حرج في أن تطرح القضية التي تشاء وتذكر الكاتبة الاسم الذي تريد، والحوار الذي يمكن أن يطرح فيه أي شيء بدءاً من المسائل الفلسفية العويصة كما في اللقاء الطريف مع أستاذ الفلسفة المصري في استوكهولم إلى حديث الجارات حتى لو جاء الحوار باللغة المحكية المفصّحة، هذا ما منح الكاتبة هنا حرارة وشرايين متدفقة، مع التأكيد أن هذه الرواية ليست سرداً لأحداث اجتماعية فحسب بل هي تؤرخ روائياً لأحداث ولحقبة سياسية واجتماعية تتعلق بحياة السوريين.

قصص متفرقة يربط بينها رابط معنوي قوي ومركزي وشديد التأثير وهذا ما يمكن أن يطلق عليه “البعد السائد” وقد اختارت الكاتبة سهام أن يكون هذا البعد في روايتها هو مأساة وطنها سورية، وهو اليوم موضوع وطني وعالمي أيضاً، تسوق كل هذه القصص والحكايات والأحداث واللقاءات لتستدرجنا إلى الموضوع السوري بأبعاده الحضارية القديمة والمعاصرة، ولتبين أن الشر العالمي بدافع المصالح والإيديولوجيات والأحقاد والحسد، تلاقت كلها في حرب مدمرة على هذا النموذج السوري العريق والذي يصلح لأن يكون قدوة للعالم في السلام والمحبة بين أفراده وبينهم وبين العالم.

الكتاب على الرغم من تعدد الحكايات المتنوعة في الزمان والمكان إلا أنه رواية وليس مجموعة قصص منفصلة عن بعضها وذلك بسبب مركزية البعد السائد في السرد. تروي الروائية الحكايات -هي الراوية في الكتاب- حولها مجتمع من الصديقات والأصدقاء والجو العائلي القريب والبعيد أحياناً، بما يشبه بشكل ما مجتمع شهرزاد أو يذكر به من جانب الإصرار على الحكاية في مواجهة الحرب والموت. الحكاية هنا كما في “الحكايات العربية” تحد للموت أو نقيض للهم ومن هذا المنطلق لا بد للسوريين وللسوريات بشكل خاص أن يفعلن كما فعلت السيدة سهام ويتصدين لسرد يوميات الحرب أو سرد المأساة بشموليتها وجزئياتها وهنّ حفيدات شهرزاد.

التعلق بالوطن

كتبت سهام يوسف في مقدمة كتابها: “إنني اعتدت وأدمنت زيارة وطني الأم سورية مرتين أو ثلاث مرات سنوياً قادمة من السويد، وغالباً ما تكون الزيارة الأولى في الشهر الأول من فصل الربيع فأمضي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع في ربوعها ثم أغادرها لأعود في منتصف أو مطلع شهر آب فأمضي شهراً كاملاً ما بين دمشق ومشتى الحلو، وحين كان يسمح الوقت كنت أذهب إلى منطقة المالكية والقامشلي وكانت والدتي قد أمضت سنوات عمرها الأخيرة في دمشق وتوفيت في عام 2013، كنت أكرر عودتي إليها بمناسبة أعياد الميلاد وفي كل مرة كنت أصل فيها ينتابني شعور وكأنها المرة الأولى التي أزورها فيها، كيف لا وهي معشوقة الشعراء ومحط رحال الأدباء ومسرح أهل الفن الرفيع ومنصة فيروز والرحابنة وسياج الياسمين  الذي ينتشر عبقه في قصائد نزار قباني على مر السنين. دمشق التي تمنح الدفء والحنان لكل عابر فيها أو قادم إليها أو مودع لها، وتهب لهم حب الحياة وخلود الذكريات والصور الجميلة والمشاعر النبيلة التي تتعشق في صدر زائرها، حجارة سوق الحميدية ومقهى النوفرة وشذا روائح سوق البزورية ومدحت باشا وأزقة باب توما، والحارة القديمة والجامع الأموي وكنيسة حنانيا والسوق الطويل وإطلالة قاسيون فما إن يغادرها قاطنها أو زائرها حتى يشتاق العودة إليها”.

جمان بركات