ثقافةصحيفة البعث

“فهرس” سنان أنطون.. ملامح بغداد بمنطق الأشياء

 

“تقدمت بحذر إلى حافة الغصن الذي تدلى قليلاً من ثقلي وثقل أمي التي تبعتني هي الأخرى، لم أنظر إلى الأسفل، بل إلى الأعالي حيث كان أبي يحوم في سماء صافية بلا غيوم، فردت جناحيّ ثم التفتّ إلى أمي، لم تقل لي شيئاً هذه المرة، ولكن عينيها شجعتاني وقبلت رأسي بمنقارها، وتذكرت كيف قالت لي مراراً إن أجنحتنا قوية وإن جناحي سيحملانني ذات يوم إلى بلاد بعيدة. نظرت أمامي واستجمعت شجاعتي كلها ورفرفت بقوة، وطرت”.

هذا منطق الطير، مقتطف من مخطوطة قديمة وصلت إلى عنوان إقامة الأستاذ الجامعي “نمير” المقيم في أمريكا والقادم إلى العراق في رحلة عمل يرافق خلالها وفداً أمريكياً خاصاً يعمل على إنجاز فيلم تسجيلي عن الاحتلال الأمريكي والآثار التي تركها على العراق.

في روايته “فهرس” يرصد “سنان أنطون” الخراب الذي وقع على البلاد، يسلط الضوء على ملامحها التي شوهتها سنوات الحرب لكنها لم تفقدها جمالياتها المزروعة في ذاكرته، وهكذا لعله لم يبحث طويلاً عن بطل روايته ليأتي به صورة عنه في الحقيقة، أستاذ جامعي مغترب عن البلاد بسبب الحرب وإن لم تكن ذات الحرب إذ كان صاحب الرواية قد رحل وعائلته عن بغداد إثر حرب الخليج تصحبه ذكريات سوف يسردها على لسان “نمير” بعد عودته إلى أمريكا إثر الرحلة السريعة حاملاً معه المخطوط وهدية قيمة من بائع الكتب صاحب المخطوط “ودود” الذي تناوب الخراب والموت والحزن على تلوين ساعات حياته.

ودود بائع الكتب

في خطين متوازيين تسير محاور الرواية، المحور الرئيسي “ودود” الذي اعتمد على منطق الأشياء ومكونات المكان التي أنسنها ووظفها جميعها في سبيل توثيق وتدوين ملامح المدينة الذاهبة إلى التلاشي بعد أن بدأت الحرب تأكل كل ما يعترضها، بعضها التهمته نيران القصف وذهب بعضها الآخر بذهاب أصحابه. هكذا كان الرجل البائس يغالب رغبته في صناعة روايته التي أسس لها كفهرس وأسماها كذلك، يوثّق دقائق الحرب التي وقعت وقد اختار عبرها الابتعاد عن التقليدي في انتقاء أبطالها والعودة إلى الموروث القديم في استنطاق الحيوان والأشياء جميعها. إلى جانب الطير كان للأشجار منطقها وذكرياتها للأمكنة والبيوت للصياد والفريسة للضحية ولجلادها أيضاً كل له منطقه: “ستكون الدقيقة فضاء ثلاثي الأبعاد، ستكون مكاناً أقتنص فيه الأشياء والأرواح وهي تسافر. التقاطع الذي تلتقي فيه قبل أن تختفي إلى الأبد، بلا وداع. البشر يودعون معارفهم وأحبتهم فقط، أما الأشياء فهي تودع بعضها البعض ولكنها تودع البشر أيضاً، لكننا قلما نسمع أصواتها وهمساتها لأننا لا نحاول، قلما نلمح ابتسامات الأشياء نعم الأشياء أيضاً لها وجوه، لكننا لا نراها، ومن يراها بعد أن يعاني ويدرب نفسه كي يفعل ذلك ومن يحاورها يصبح مجنوناً في عرفكم”. هكذا يرى ودود البائس الذي يعيش في ظل كتبه ومخطوطاته، أن الزمن ثقباً أسود: “حفرة تقع فيها الأشياء وتختفي، حتى بداية كل هذا الوجود بحسب إحدى النظريات كانت انفجاراً وليس الوجود إلا شظايا وأشلاء وها نحن نعيش تبعاته وآثاره. وأنا سأنتشل هذه الدقيقة من الثقب الأسود، لكن لماذا؟ هناك من يكتب ليغير الحاضر أو المستقبل. أما أنا فأحلم بتغيير الماضي، هذا منطقي ومنطق فهرسي”.

سنطلع على منطق الخليفة، منطق الزوراء، الجدار، العود، الجنين ومنطق “كاشان” السجادة التي باحت بأسرارها كأيّ بشري: “كذب البائع بشأن نسب كاشان ولم يقل أنها بنت بغداد، بل أصر على أنه استوردها من إيران، أضافت المرأة إليها اثنتين أخريين وكان نصيب كاشاننا غرفة الضيوف” ثم تأتي شجرة الزيزفون لتدلو بدلوها عبر منطق السدرة: “ثم جاء يوم سمعت فيه السماء تنكسر وتنهمر منها الحمم. كأن قاع الجحيم قد انهار. اخترقت ما تبقى من قلبي شعلة أضرمت النار فيّ، خفت لكنني استبشرت خيراً، فهذا الجحيم سينهي موتي الذي بدأ منذ سنوات”. ثم هناك منطق حسن اللحاف الأسير صاحب الصوت الشجي الذي لن يبقى من آثار موهبته سوى اسطوانة: “في صندوق جثم في مخزن لسنين طويلة ينتظر النار التي ستلتهمه في يوم ربيعي عام 2003”.

الأستاذ الجامعي

سوف يصل نمير إلى موطنه الثاني لكنه سيبقى عالقاً في بغداد تشدّه إليها الذكريات والتفاصيل الإنسانية التي تجمعه بصاحب المخطوطة رغم بعد المسافة بينهما، يعود إلى كلماته حيناً ويكشف عن الكثير من سيرته الذاتية حيناً آخر، طفولته ومغامراته علاقته بالكتب والكتابة وتوقه إلى أن يكون مقروءاً من الآخرين، تلك الأحلام التي سرعان ما تتلاشى بمجرد وصوله إلى مرحلة العمل الأكاديمي، لكنه بعد تلك الرحلة يقع أسير وسواس عيش التفاصيل ذاتها التي مرت بقرينه أو مرآته وعينه التي بقيت في العراق، سوف يحل أحدهما في الآخر: “رأيت أننا كنّا شخصاً واحداً، تجمعنا أنا واحدة، أراه حين أنظر في المرآة وأراني، ذاكرتنا واحدة، وجسدنا واحد وصوتنا واحد، لم يكن اسمنا “ودود” أو “نمير”، لا أعرف الاسم، خرجت أو أخرجت أنا من تلك الأنا، انسلختُ وهجرت بغداد وسافرت بعيداً، وعندما عدت لم أعرف ودود لأنه هو “الآخر” كان قد انسلخ عن “أنا” أيضاً وأصبح شخصاً آخر. لذلك لم يعرفني، “أنا” جمعت بين ودود وبيني لأنها/لأنني نريد أن نعرف ما حدث لودود لأنه كان سيحدث لي”.

منطق الكاتب

سنرى كيف يعلن صاحب الرواية عبر حكايته وعلى لسان “نمير”عن موقفه من الاحتلال وحال البلاد ويعبر عن سخطه على المجتمع الدولي وموقفه من قوافل المتنفعين والأثرياء الجدد والمشاريع الكبرى التي التهمت في طريقها تلك الأمكنة الحميمة التي طالما احتضنت ذكرياتنا وأحلامنا، ويقدم قراءة أخرى للعلاقة ما بين الماضي والحاضر، وبين الكاتب ومنجزه، وبعيداً عن التقليدية يشير إلى المآسي وتبعات الحروب، وما تتركه على البشر والحجر والقادم من المستقبل، تأتي الرواية بشكل جديد من التجريب والسرد البعيد عن التنميق والتزويق، والحوار المتكىء على اللهجة العراقية المحكية، التي رأيناها في روايات سابقة له، ورغم الانتقالات المتكررة ما بين المحورين وتعدد الشخصيات في كل منهما إلا أن الأمر لم يترك أي أثر سلبي على تسلسل الأحداث، وإبقاء القارىء في حالٍ من التشويق والتطلع للوصول إلى الخاتمة التي اختار لها الكاتب أن تكون أكثر من واحدة، ستكون النهاية عدة نهايات لعل أبلغها تلك التي تنبأ بها “ودود” لبقية مخطوطه وكتبه ولنفسه أيضاً: “عيد ميلادي بعد شهر من الآن وسأحتفل به بطريقة استثنائية، سألقي بكل ملفاتي في برميل وسأراقبها تتحول إلى رماد. نعم سيحترق الفهرس، ولأنه مشروع عظيم ونصٌ فريد فلا يليق به أن يسير إلى حتفه وحيداً. وماذا أكون أنا بعد الفهرس، بل لماذا أكون ولمن، ستكون النهاية المثالية أن احترق أنا أيضاً”. لكن ودود عبد الكريم لن يمتلك الشجاعة على تحقيق نبوءته بنفسه، سيتكفل آخر بالأمر، وبحرقة تعادل حرقته يوم وفاة والدته سيقرأ نمير الخبر: “انتحاري يفجر نفسه في مركز تجاري بالقرب من شارع المتنبي ويتسبب في مقتل ثلاثين شخصاً على الأقل” سيكون تسلسل ودود بأحلامه وآماله وأحلام نمير؛ السابع والعشرين على قائمة شهداء شارع المتنبي الثلاثين.

سنان أنطون كاتب عراقي مواليد بغداد 1967، صدرت له أربع روايات هي “إعجام، وحدها شجر الرمان، يا مريم” بالإضافة إلى “فهرس”، وصلت روايته “يا مريم” للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية في 2012، كما صدر له ديوان شعر بعنوان “ليل واحد في كل المدن”.

بشرى الحكيم