ثقافةصحيفة البعث

لم يتبق محلات

على مرتفع يطل على المدينة وأضوائها التي تشع من كل نافذة، تبعثرت مقاعد خشبية وضعتها البلدية يوما لعل المارقين يؤنسون خاطرها بالجلوس. رصيف طويل من المقاعد المجانية والعربات المحملة بعرانيس الذرة والفستق وعباد الشمس، يجرها أصحابها بهدوء وكأنها وليدة صغيرة يخافون أن يبكي أطفالهم إن هي توقفت، إنها رزقهم ولقمتهم الحلال..

بين الوجوه تكثر التفاصيل، ولكل وجه حكاية، العائلة التي اشترت مشروبا غازيا يتناسب مع عمر صغارها لا تشبه أبدا زجاجة الكحول في يد شاب عشريني الهوى, والصبية التي تركض وراء كلبها الصغير تبدو ماضيا جميلا لتلك العجوز المستندة إلى المقعد وبيدها علبة مياه معدنية.. إنها دورة الحياة.

هبط المساء وازدادت التجمعات والأصوات ودواليب السيارات التي تمر بالمنطقة,  جاء هو على دراجة نارية بالكاد تعمل، تتأبط خصره زوجة وطفلة رضيعة، أي قدر أعطاه القوة ليجعل منها شريكة في هذه الرحلة التي لا ترافقها السلامة غالبا, ربما القدر نفسه الذي جعله يرضى بأن يحمل لقب غريب في مدينة لا يتكلم لغتها، ويشار إليه بالأصابع والعيون “ها هو ذا” تفضحه ملامحه الباهتة وثيابه التي لم يبدّلها منذ أن كان عريسا جديدا. نزل عن دراجته وبدأ البحث عن مكان وسط هذه الجموع، مشى إلى آخر نقطة ثم عاد، لم يتبق محلات..

هذه العبارة تعلق في دور السينما والمسرح عادة، لكنه اليوم رددها هو في سره, عاد خائبا من كل شيء، من الحياة التي أشقته حد الألم، من حظه الذي وقع في البئر، من أحلامه التي ضحكت عليه وتحققت لغيره، حتى من هذه الأماكن البسيطة التي لا مقعد له فيها. هو لم يطالب بمطعم محترم ولم يشته الجلوس على طاولة نظيفة,  كل ما في الأمر أن اليوم عطلة وضاق بالغرفة التي يستأجرها بأكثر من نصف راتبه.

همّ بالرجوع لولا أن دعاه صوت لمشاركته في المقعد تفضل.. إنه شريكه في هذه الدنيا، أخاه الذي لا يشبهه بالبؤس والتشرد في البلاد الغريبة، لكنه على الأقل أحس به، أمسك بدموعه قبل أن تقع, وجد له ولعائلته الصغيرة مكانا يواسي تعبهم ورحلتهم على الدراجة النارية.

هذه الدنيا للجميع -لا بد أنه تمتم بها-  للجميع دون استثناء ودون فروقات أو اختلافات مهما كان نوعها لا يهم الآن إن كان مواطنا أم لاجئا, فقيرا أم غنيا.. ها هو يتشارك المقعد مع أخيه في الإنسانية فقط.

جلست زوجته بقربه ووضعت الصغيرة في حضنها ثم أخرجت من جزدانها سندويشتين, لها واحدة ولزوجها واحدة, تناولا بنهم ما كان في لفيفة الخبز وكانت عيونهما تلتقي بين كل قضمة وأخرى فتضحك وتضحك وكأنها تقول لبعضها: قليل من الفرح ولو كان بهذا الشكل لا بأس.

ندى محمود القيم