دراساتصحيفة البعث

الصين وأمريكا ..أكبر حرب تجارية في التاريخ

د. معن منيف سليمان

تعدّ الصين والولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، وقد اندلعت بين الطرفين حرب تجارية تصاعدت حدّتها إلى حدّ تبادل التهديدات وفرض العقوبات، فمثّلت بذلك أكبر حرب تجارية في التاريخ، وممّا لاشك فيه أن هذه الحرب سوف تشكّل تهديداً خطيراً للتجارة العالمية، وستكون ذات نتائج عكسية ومدمّرة للمصالح الاقتصادية لكلا البلدين. ومع أن الأمور كانت تبدو متجهة في طريق الحرب التجارية المفتوحة فإن البلدين يحاولان كسر الجليد، ويسعيان إلى تقدير قوة كل منهما ورؤية إلى أين يمكن أن تصل الأمور بينهما.

ففي 22 آذار عام 2018 بادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان حرب تجارية هي الأكثر حدّة والأوسع نطاقاً مع الصين منذ ربع قرن، بعد تقديمه مذكرة رئاسية تتضمّن فرض عقوبات اقتصادية على الصين، تستهدف قطاع أكبر من المنتجات الصينية بالتعرفة الجمركية، بنسبة 25 بالمئة على بضائع صينية تبلغ قيمتها نحو 34 مليار دولار، كدفعة أولى من رسوم تستعدّ الولايات المتحدة لفرضها على الصين بقيمة 50 مليار دولار. بذريعة تعويض الخسائر الصينية من قرار التعرفة الأمريكية على واردات الحديد والصلب والألمونيوم.

ولم تنتظر الصين كثيراً، حيث قررت هي الأخرى في اليوم التالي مباشرة فرض رسوم مماثلة بنسبة 25 بالمئة على 545 منتجاً أمريكياً بقيمة تبلغ أيضاً 34 مليار دولار، ضمنها منتجات زراعية كفول الصويا والسيارات. ووصفت إعلان ترامب أنه يمثّل سابقة سيئة للغاية. وأن الصين لا تريد أن تخوض حرباً تجارية، لكنها ليست خائفة بالتأكيد من هذه الحرب، وأكدت ثقتها وقدرتها على مواجهة أي تحديات، متمنية أن يصبح الجانب الأمريكي قادراً على اتخاذ قرار سريع وألا يجرّ العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية إلى الخطر.

وهكذا بدأت الحرب التجارية رسمياً بين العملاقين الاقتصاديين، إذ إن قرارات ترامب عكست تغيراً في العلاقات بين البلدين اللذين أجريا على مدار سنوات حوارات منظمة للغاية في محاولة للتوصل إلى اتفاق حول القضايا الأمنية والاقتصادية، لكن واشنطن ترى الآن هذه الحوارات، وما أسفرت عنها من اتفاقيات، أنها وعود جوفاء إلى حدٍّ كبير من جانب الصينيين. في حين اتهمت بكين واشنطن أنها تشن أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي.

لقد بدأت الولايات المتحدة تعدّ الصين في هذا الوقت منافساً استراتيجياً عازماً على تقويض الأمن والازدهار الأمريكي، ولذلك تعتقد أنها بحاجة إلى ردع ضدّ استغلال الصين لملكيتها الفكرية، حتى وإن شكّ الكثيرون في أن التعريفات الجمركية هي أفضل طريقة.

ومنذ أن وصل الرئيس الأمريكي ترامب، إلى سدّة الرئاسة وهو يتبع سياسة حماية البضائع الأمريكية، وذلك من خلال تشجيع عملية التصنيع في بلاده وفتح سوق العمل، ما دفعه للإعلان عن فرض رسوم على الواردات الأمريكية من الحديد والصلب والألمونيوم بهدف حماية الصناعة المحلية. كما يهدف ترامب إلى تقليل العجز التجاري بين بلاده وبين الصين، حيث تستورد أمريكا من الصين أكثر ممّا تُصدّر لها، وتبلغ قيمة الصادرات الصينية لأمريكا نحو 500 مليون دولار. ويريد الرئيس ترامب وقف نقل التكنولوجيا الأمريكية غير العادل، وحقوق الملكية الفكرية إلى الصين، وحماية الوظائف. وقال بيتر نافارو، مدير مجلس التجارة الوطنية بالبيت الأبيض والمهندس الرئيس لهذه الإجراءات: “لقد أعربنا مراراً عن مخاوفنا للصين.. وما تفعله الولايات المتحدة هو الدفاع استراتيجياً عن نفسها في مواجهة العدوان الاقتصادي الصيني”.

وفي المقابل تريد الصين أن تحافظ على مصالحها التجارية، لتستمرّ في مقدّمة أكبر الدول المصنّعة في العالم، إذ تمتلك الصين خطّة تحت اسم “صنع في الصين”، لتصدّر قائمة الدول في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وترى بكين أن التعرفة الجمركية الصينية على البضائع الأمريكية تأتي لتعويض الخسائر التي تتعرّض لها الصين بسبب التعرفة الجمركية الأمريكية التي فرضت على واردات الصلب والألمونيوم، وقد حثّت الصين الولايات المتحدة على معالجة أوجه القلق الصينية في أقرب وقت ممكن وحل الخلافات الثنائية، من خلال الحوار والتشاور وتلافي الإضرار بنطاق التعاون الصيني ـ الأمريكي الأوسع.

ويرى الخبراء الاقتصاديون أن السلع التي تخطط الصين لفرض تعرفة عليها تمثل 2 بالمئة فقط من صادرات الولايات المتحدة إلى الصين التي بلغت قيمتها 130 مليار دولار عام 2017، ولن يكون لذلك آثار مدمّرة اقتصادياً، لكنها حتماً ستضرّ بمصالح المُصدّرين في الولايات المتحدة.

ويرى عدد من الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين أن البلدين على وشك الدخول في حرب تجارية، وأن تحرّك الصين إشارة على أنها لن تسعى إلى خفض التصعيد، واستبعدوا أن تهدأ الأوضاع في ظل ميول الرئيس الأمريكي ورغبته الملحّة لتحقيق فوز سياسي أياً كانت التبعات السياسية المحتملة.

ويرى آخرون أن الحرب التجارية التي بدأت رسمياً بين البلدين إذا انتهت عند حد 34 مليار دولار، فسيكون لها أثر محدود على اقتصاد البلدين، لكن إذا تصاعد إلى 500 مليار دولار مثلما قال الرئيس ترامب فسيكون له أثراً كبيراً على البلدين. وكان الرئيس ترامب قد هدّد بمد الرسوم لتصل قيمتها 500 مليار دولار، وهي قيمة صادرات الصين لأمريكا.

ويتساءل البعض عن مستقبل الاقتصاد العالمي وتداعيات كل ذلك على الأسواق وسلاسل الصناعة العالمية ويحذّرون منذ الآن من ركود اقتصادي شبيه بذلك الذي ضرب العالم في ثلاثينيات القرن الماضي جراء الحروب التجارية.

وينقسم المسؤولون في إدارة ترامب بشأن مدى الضغط على بكين، لكن يبدو أن البيت الأبيض يعتقد أنه سيربح الحرب التجارية في الوقت الذي يتباطأ فيه اقتصاد الصين وتنخفض أسواق الأسهم فيها. وقال وزير التجارة الأمريكي ويلبور روس: “لن يستسلموا بسهولة، من الطبيعي أن يردّوا بعض الشيء، ولكن في نهاية المطاف لدينا ذخيرة أكثر بكثير ممّا لديهم، يعرفون هذا، لدينا اقتصاد أقوى بكثير ممّا لديهم”.

وترى بكين أن التدابير الأمريكية تتعرّض في الأساس للإمدادات العالمية ولسلسلة القيمة، وببساطة إن الولايات المتحدة تطلق النار على كل العالم، وتطلق النار على نفسها كذلك. وأن الصين لن تنحني في وجه التهديد والابتزاز.

ويعتقد الاقتصاديون أن فرض رسوم على واردات بمئة مليار دولار يقلّص التجارة العالمية نحو 0.5 بالمئة. ويقدّر الخبراء أن للرسوم أثر مباشر على نمو الاقتصاد الصيني في عام 2018 بما 0.1 ـ 0.3 نقطة مئوية، وأن لها تأثيراً بنسبة أقل على الولايات المتحدة، لكن التأثير سيكون أكبر في العام المقبل، فضلاً عن الإضرار بدول أخرى وشركات ترتبط بسلسة التوريدات العالمية للصين.

وستؤدي هذه الرسوم إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع عالمياً، بحسب ما ذكره موقع “بي بي سي”. فجهاز آيفون الذي صُمّم في أمريكا وجُمع في الصين ومكوناته تأتي من اليابان وكوريا الجنوبية، فإذا فرضت الولايات المتحدة رسوماً فإن كل هذه الدول ستتأثر وسيتوجب عليها تغطية النفقات العامة، ما يعني أن سعر الهاتف سيرتفع. وستكون أكثر الدول المتضررة، التي تعتمد على السلع المستوردة أو التي تستخدم مكونات خام مستوردة.

وعلى الرغم من أن الأمور كانت تبدو متجهة في طريق الحرب التجارية المفتوحة فإن البلدين يحاولان كسر الجليد، ويسعيان إلى تقدير قوة كل منهما ورؤية إلى أين يمكن أن تصل الأمور بينهما. ففي محاولات لاحتواء الحرب المتصاعدة جنح الطرفان المتصارعان إلى عقد محادثات ثنائية في واشنطن قادها وكيل وزارة الخزانة الأمريكية ديفيد مالياس، ونائب وزير التجارة الصيني وانغ شو ون، وهي أول مفاوضات رسمية، وقد عبّرت مجموعات ممثّلة لمصالح الشركات عن أملها في أن يشكل الاجتماع بداية مفاوضات جادّة بشأن التغييرات في سياسات التجارة والاقتصاد الصيني التي يطلبها الرئيس ترامب. إلا أن الرئيس ترامب أعلن أنه لا ينتظر الكثير من تلك المحادثات.