الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ليس لـ “لماذا” في بلادنا صديق!؟

د. نهلة عيسى

بلا باب ولا بواب، أنا مُستفزة من قمة رأسي حتى أخمص قدمي، بل أنا كتلة من القهر متحركة على قدمين، وأشعر بشعور الغريقة وأنا أتخبط في مستنقع بشاعات حاضرنا، حيث تبدو فيه مدننا وقرانا وكأنها غاضبة ومضربة عن الطعام، عن النوم، عن البشر، بل حتى عن نفسها، لأنها ترفض أن تنسب إلى هذا الزمان، وتأبى أن تدون كتب التاريخ أن جثثاً تلقب بالبشر مشت على أرضها يوماً، وأنها بدل أن تتجمل للحياة، ناءت بالجياع وبالراحلين كرهاً من منازلهم إلى شوارعها، والقلوب نار فلا عين ترى تاريخاً أو جمالاً، فقط بسطات وبسطات، ووجوه كئيبة، وقلة حيل وحيلة، وكلٌ يكافح وحيداً ليبقى على قيد الرغيف أو قيد الرحيل!!
أنا غاضبة، لأني لست ممن يؤمنون أن الياسمين يمكن أن يخفي الفقر والقهر، أو يمكن له أن يسدل الستائر البيضاء على ألوانه الكالحة التي تغطي كل المرئيات، حيث المقاهي تعجب الناس المترعين بالهموم، يتكلفون الفرح، والتعب يسطو على كل الملامح، ويشربون نراجيلهم بطريقة أشبه بالانتحار الجماعي، ويحدقون في الأرصفة بلا اهتمام ولا فضول، وعيونهم أقرب للنوافذ الموصدة على الذكريات، بل على اللا شيء، حيث الأمس بات حلماً، لأن الغد صار مبنياً للسرب وللمجهول!!
أنا غاضبة، لأننا نعيش يوماً بيوم، حكومة ومواطنين، بلا أفق نبحث عنه أو نبحث فيه، وأننا مرميون على أسلاك الكهرباء المتدلية على الجدران، ليزداد سقوطنا في حلم العودة إلى الأمس، رغم كل بغضنا للأمس بظلاله الشبحية التي أغرقتنا في لجة العتمة، وقادتنا إلى الدروب الموجعة، حيث أبواب البيوت مقفلة بالغصات، والدكاكين مثل الوجوه تبدو كشيخ بائس ينتظر على الطريق عودة ابن ضال، وحيث كل الأمل بالغد-لأن لا أحد فينا يعمل للغد- يبدو كهياكل معدنية لمراجيح عارية وصدئة تشعر بالوحشة، وتصفر الرياح عبرها كصوت التنين، مع إحساس غامض بخوف عميق، ينذر بأننا عراة!؟
أنا غاضبة، لأن من يحكموننا بقراراتهم يضعوننا على درج الزمان الرديء، ويخيرونا بين رداءة ما نعيشه، وبين قادم مبني للمجهول، ربما يكون أردأ، نحن الذين أرهقنا التجوال في دروب الافتراض، والحزن من ترهلات النهار، والبكاء على الطرقات تتحدى خطواتنا وسط الدمار، وحيث لا مجد في بلادنا إلا مقترناً بالموت، وحيث الشعر مهمة رسمية، واللغة تابوت واسعا نودع فيه من نحب، وقصصاً عناوينها سكاكين جديدة والنهايات فيها حزينة، ويقيننا على مداخل مدينة “لماذا”، وليس هناك من يجيب!؟
أنا غاضبة، لأن عدم الإجابة على “لماذا”؟ تقتلني، والجنون في الوطن صار صرخة توقظنا منذ ما يقارب الثماني سنوات على أصوات سائقي الحافلات، وبائعي الملابس والخضار، وتجار الأوطان، وهم يبررون الأسعار بالوقود الأسود والحرب، وليس هناك من رقيب عليهم أو حسيب، ولذلك ليس في آذاننا من صوت، سوى صوت وقع أصابعنا وهي تعد ما في جيبنا من نقود، وتَقيس الحياة بالنقود، ثم تتساءل في عقل محض: هل حياتنا حياة!؟
لماذا؟ هو السؤال المدينةٌ التي نسكنها جميعاً الآن، رغم أن المكان هو المكان، والشخوص واللاعبون والمتلاعبون، وذات الوجوه، وثماني سنوات أو أقل تفصل بين زمن ادعاء الرغبة والرسولية للوصول إلى السماء، وبين زمن الوصول إلى مدينة “لماذا”؟ حيث من يحكموننا يصرون فوق جثثنا على أننا بألف خير، ووسائل الإعلام تقول كذلك، وغير ذلك من قصص وحكايات، تنتمي في حقيقتها إلى تاريخ روايات الجيب، وحكايات الجدات قبل النوم، عن الأميرة النائمة وقبلة الحياة والأقزام السبعة، بينما أصداء الأنين القادمة من منطقة البؤس في مدينة “لماذا”؟ تشير إلينا بحقيقة ما يدور، ويبدو مما يدور أننا لسنا بخير، وأنه ليس لمدينة “لماذا” محطات إقلاع في بلدنا، لأن جوازات سفرنا مدون عليها، كل دول العالم ماعدا إسرائيل.