اقتصادصحيفة البعث

تخفيض سقوف الإيداع يطرد الأموال.. ويعري ضعف السياسات النقدية..! مؤشرات تشي بإخفاق استراتيجياتنا الاستثمارية في التماهي مع إيداعات المصارف

 

لا تزال بوصلة الاقتصاد الوطني تتأرجح بين مطبات السياسات الاقتصادية ولاسيما النقدية منها رغم الاستحقاقات الكبيرة خلال المرحلة القادمة، إذ تغلب المعطيات الآنية على رسم الاستراتيجية العامة لهذا الاقتصاد، فرغم أنها رست على ضرورة تشجيع المشاريع الاستثمارية والعمل على تمويلها بالسرعة القصوى، إلا أنها أخفقت في تحقيق النتائج الإيجابية نتيجة تواضع التمويل من قبل القطاع المصرفي، ولعل تحديد سقف الإيداع في القطاع المصرفي يثير الحفيظة لجهة قراءة تأثيراته على مسار العملية الاقتصادية والاستثمارية، وفتح المجال واسعاً لجدل اقتصادي يبنئ عن وجود تضارب بين الدعاية الإعلامية التي تشجع على الاستثمار، والماكينة الاقتصادية التي تخصص منح القروض للمستثمرين.

تستحق البحث
قد يكون للمصارف أسبابها الموجبة لهذا التخفيض وتأتي في سياق تنفيذ سياسيات المصرف المركزي، إلا أن الأسباب الموجبة لفتح الباب أمام استقطاب الكتل المالية الموجودة في الأسواق ولاسيما خلال المرحلة الحالية يجعلها خياراً استراتيجياً يستحق العصف الذهني والبحث، بدلاً من اعتماد طرق سهلة وآمنة تحصنها من احتمال المخاطرة وتوقعها في فخ التضارب، فكما بينت مصادرمصرفية فإن تخمة السيولة وارتفاع نسبتها إلى ما يزيد على الـ50%، والذي تم اعتبارها في وقت سابق من قبل بعض مديري المصارف مؤشراً جيداً لرفع إمكانية أي مصرف بالمساهمة في تمويل المشاريع الاستثمارية، وبناء عليه سيتم الإعلان عن قنوات تسليفية جديدة، ولكن تخوف القطاع المصرفي من التضخم طغى على مكامن الإبداع لاستقطاب الأموال وتسهيل عمليات التمويل، إلى جانب تحول جزء كبير من أرباحها إلى تسديد فوائد الودائع فقط، فهل أخفق القطاع المصرفي ومن ورائه مصرف سورية المركزي بإيجاد قنوات تسليفية جديدة، وإيجاد آليات تستقطب الراغبين بإقامة مشاريعهم الإنتاجية التي ستقود إلى تنمية شاملة وتسريع دوران عجلة الاقتصاد الوطني..؟ ليكون الحل بصد باب قبول الودائع الكبيرة المطلوبة للاستثمار، – وإن كانت إجراءات مؤقتة – هل سيرشح عنها نتائج إيجابية، أم أنها تخبط واضح في السياسيات النقدية ودليل عجز عن استثمار الأموال في قنوات استثمارية نحن بأمس الحاجة إلى تفعيلها..؟!

إشكالية المكوث
اعتبر الدكتور علي كنعان أن هذا الإجراء غير مصرفي ويخفف من حجم الودائع المصرفية، الأمر الذي سيدفع بالأفراد إلى توظيف مدخراتهم في مصارف أخرى، ولكن مع اتخاذ المصارف الخاصة ذات القرار، ستصبح المصارف طاردة لها بدلاً من استقطابها، وتثبت عدم قدرة البنوك على توظيف المدخرات، ويعود السبب برأي كنعان إلى القرار الذي أصدره المصرف المركزي القاضي بتحديد مدة مكوث الوديعة بستة أشهر إلى سنة ليتمكن المصرف من إعادة إقراضها، ليكون قرار المركزي مقيداً للمصارف لجهة منح القروض، وبالتالي فإن المركزي يدفع المتعاملين مع البنوك إلى طريقة الدفع النقدي دون التعامل مع القروض، مما يزيد معدلات التضخم ويفقد النقد دوره في الاقتصاد إلا باستثناء أنه أداة للدفع، أي أنها ستزول وظيفة قياس القيمة والادخار والتبادل، ليخلص كنعان إلى نتيجة مفادها سيطرة الركود في الأنشطة الصناعية والتجارية، وقد لوحظ عدم إقبال المستثمرين على إقامة المنشآت الجديدة أو التوسع بمنشآت قائمة لحاجتهم للقروض، وبما أن البنوك شبه متوقفة بسبب رصيد المكوث، فإن الأمر سيؤدي إلى تخفيض الاستثمار ومن ثم تخفيض الإنتاج وظهور البطالة، وعول كنعان على ضرورة قيام البنك المركزي بإلغاء كل إجراءات التقييد، ووضع إجراءات جديدة تعيد النظام المصرفي إلى دوره وتألقه في الاقتصاد وتشجيع الاستثمار والتعامل المصرفي.

صحيحة ولكن..!
فيما رأى خبير رفض ذكر اسمه أن مصرف سورية المركزي يتبع سياسة توسعية، أراد منها رفع قيمة الكتلة النقدية المتداولة في السوق من أجل تحريك العجلة الاقتصادية، ولكنه اعتبر أن الإجراء صحيح فيما لو توفرت له جملة من الشروط، أولها قدرة الدخل على الاستهلاك، التي تدنت إلى أدنى مستوياتها في ظل الرواتب الضعيفة التي أدت إلى تراجع الاستهلاك، وبالتالي ساعدت بارتفاع مستوى التضخم وارتفاع الأسعار؛ لذلك سيؤدي هذا التخفيض إلى تراجع إقبال المتعاملين على إيداع أموالهم بالمصارف العامة والخاصة لارتفاع تكاليفها وضيق أقنية الإقراض، وضعف الإنتاج بغياب التمويل المصرفي له، وبالتالي تكون السياسة التوسعية غير مجدية في الوقت الراهن، مؤكداً على ضرورة وجود قرارات تسبق هذه السياسة وأهمها زيادة الرواتب، مبيناً أنه وأمام ضعف التمويل المصرفي بسبب عدم وجود حلول قانونية للمتعثرين، سيؤدي هذا الإجراء بحسب رأيه إلى ظهور ظاهرة جامعي أموال، الذين سيعملون بالسوق السوداء كمضاربين على الدولار، ودلل على ذلك تنامي هذا النشاط بالتوازي مع فتح معبر نصيب، الذي سيساعد على تنشيط عمليات التصدير الوهمي، مما سيرفع الأسعار، ويُحدث تراجعاً في القوة الشرائية لليرة، ولاسيما أن الأسعار ارتفعت بالفعل بنسبة ٥%، وزاد سعر الصرف إلى ١٠ ليرات سورية خلال الأيام الماضية.

توافق وتعارض
وذهب الدكتور أكرم الحوراني إلى ما ذهب إليه كنعان، مبيناً أن هذا الإجراء لن يكون في صالح العملية الاستثمارية بشكل عام، ويشي بعجز المصارف والسياسة النقدية على إيجاد مجالات للتوظيف في ظل وجود فائض عالٍ من السيولة المتراكمة في المصارف، إلا أنه عارض فكرة توجه المدخرات إلى السوق الداخلي، وتحولها إلى زيادة في الطلب على القطع الأجنبي أو العمل بالمضاربات، وذلك لكون سعر الصرف مستقراً، مؤكداً بأن التوجه العام بحسب التصريحات وأفول الأزمة يصب في سياق مزيد من القوة للاقتصاد والليرة السورية.

حلول ضرورية
واستغرب الحوراني أن حجم الأموال المتوفرة في المصارف لا تذهب إلى الأقنية الاستثمارية، مبيناً أنه يتوجب على القائمين على السياسة النقدية اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتشجيع الائتمان وتوجيهه إلى القطاع الإنتاجي وليس القطاع الخدمي والاستهلاكي الكمالي، والذي سيؤدي بالضرورة إلى المزيد من سرعة حركة عوامل وعناصر الإنتاج، مما يساهم في زيادة الإنتاج وتراجع نسب البطالة وتحسن الدخل، إلى جانب ضرورة إعادة النظر بالسياسة التسليفية استجابة لصيحات الصناعيين ولاسيما ممن دمرت منشآتهم بشكل كلي والذين أبدوا جاهزيتهم للعودة إلى العمل ولكنهم بحاجة إلى التمويل، وبالتوازي مع إعادة النظر بموضوع الضمانات والتي وصفت بالتعجيزية، وعدم حصر الضمانات المطلوبة بالضمانة العقارية التي لم تعد منطقية إلى حد كبير برأيه، ركز على وجود مقترحات كثيرة لاعتماد ضمانات جديدة كضمانة المشروع نفسه، أو اتخاذ إجراءات كثيرة منها تمويل المصرف وإشرافه على تنفيذ القرض ليذهب القرض إلى هدفه بشكل مباشر.
فاتن شنان