دراساتصحيفة البعث

تنوع أشكال القوة في الصراع الدولي

 

باسل الشيخ محمد
تختلف تعريفات القوة في العلاقات بين الدول، فمن قائل إنها “القدرة على التأثير”، إلى اعتبارها “التسبب في فعل ما لم يكن موجوداً لولا وجود مجموعة من العوامل”، وانتهاء بتعريف “القدرة على استعمال العنف سياسياً واقتصادياً لإنجاز هدف ما”، وتتقاطع تلك التعريفات في نقطة هي إرغام “الآخر” لتحقيق هدف ما، الأمر الذي يفترض من الناحية النظرية أن ذلك الهدف لا يصب في مصلحة من تمت ممارسة القسر والإكراه بحقه.
شكّل عام 1990 نقطة تحول في مفهوم استخدام القوة، وذلك عندما اندلعت حرب الخليج الأولى، وقتها استخدمت تقنيات حديثة ضد الجيش العراقي لم تكن قد استعملت من قبل في الحروب، إلى الحد الذي وصفت به تلك التقنيات الحربية الحديثة بأنها “حرب الننتندو” لجهة أن تحريك العتاد العسكري لم يكن يتطلب سوى ضغط بعض الأزرار، ولاحقاً تم استخدام الضغط الاقتصادي على العراق الذي شهد مأساة إنسانية تجلت في أبرز صورها بنقص الأدوية والأغذية في الأسواق، ومنذ ذلك الحين ونحن نشهد تناوباً بين أداتي الحرب: الاقتصاد والحرب.

أساس فكري
غير أن الحرب على العراق كانت مكلفة بالنسبة للدول الغربية التي شنت الحرب، لم تكن النتائج الاقتصادية ذات جدوى حقيقية بالنسبة للدول الغربية، بقي تصدير نفط الخليج على حاله دون أن يكون ذا فائدة ملموسة في الأسواق الغربية، لهذا لم يكن من المستغرب أن يسقط جورج بوش الأب– الذي شكّل تحالفاً ضد العراق- في الانتخابات التالية.
دخل بيل كلينتون بعدها إلى البيت الأبيض، وتبعه جوزيف ناي من الباب نفسه ليصبح وكيلاً لوزارة الدفاع، ويبدو أن ناي لم يكن معجباً بالحروب التي شنتها الولايات المتحدة في عهد بوش الأب، ولا في عهد كلينتون، والتدخل في البوسنة، فطرح في كتابه “مفارقة القوة الأمريكية” مجموعة من الأسئلة جاءت على خلفية اقتصادية.
الواقع أن تحليل الخلفية الاقتصادية لم يكن من بنات أفكار ناي نفسه، بل جاء كرد فعل على موجة المراجعات الأمريكية لسياسة الولايات المتحدة في المجال الاقتصادي، ما أدى إلى خفض الإنفاق العام، بما في ذلك العسكري والإعلامي، وتفتق ذهن ناي عن فكرة أرخص ثمناً يعتقد أنها مؤثرة إلى حد ما.
يقول ناي “إذا أرادت الولايات المتحدة أن تظل قوية فعليها أن تهتم بالإضافة إلى القوتين العسكرية والاقتصادية كمثالين على القوة الصلبة، والتي يمكن استخدامها لإقناع الآخرين قسراً، أي جعل الآخرين يريدون ما تريده أنت، وذلك دون اللجوء إلى التهديد باستخدام القوة العسكرية أو العقوبات الاقتصادية”، مضيفاً: “لقد أضحى من الصعب، في العالم المعاصر، استخدام العصا، إذ أصبحت القوة العسكرية- على الرغم من ضرورتها كسياسة ردع وإكراه- صعبة جداً، وأصبحت الحرب أمراً مكلفاً جداً من الناحية المادية، ومثار مزايدة ومناهضة من هنا أو هناك”.
لم يعش هذا المفهوم طويلاً، إذ تبيّن أن أشكال القوة الناعمة لم تمنع أحداث الحادي عشر من أيلول من الوقوع، وهذه المرة قامت مؤسسة “ستار” عام 2007 بافتتاح مركز دراسات استراتيجية ودولية، والإتيان بتقرير عنوانه “القوة الذكية” الذي زاوج ما بين القوتين الناعمة والعسكرية لدعم المكانة الأمريكية العالمية، ترأس وقتها ريتشارد أرميتاج، مستشار رونالد ريغن وبوش الأب، وجوزيف ناي، اجتماعات ذلك المشروع.

تعدد الأقطاب.. الصراع مستمر
خلص مؤتمر دافوس المنعقد هذا العام إلى أن العالم متصدع ومتعدد الأقطاب، على أن هذا لا يجب أن يعني– والكلام للمؤتمرين- أن يسود الاستقطاب والتناحر، بل يجب أن يؤدي إلى نوع من التعاون، وهذه النتيجة أوحت كأن هذا المؤتمر انعقد على سطح كوكب آخر!.
قبل ذلك التصريح، سبق لـ هيلاري كلينتون أن قالت إن “الولايات المتحدة باتت أكثر قوة، ولكنها بحاجة إلى بناء الشراكات والتحالفات الدولية للتعامل مع التحديات الراهنة”، عبر ما أطلقت عليه اسم “الدبلوماسية الذكية”.
أضافت كلينتون كلمة “الذكية” إلى جانب كلمة “الدبلوماسية” في جملة متناقضة الجوهر، حيث إن كلمة “الذكية” لم تعد تعني في القرن الحادي والعشرين إلا إضفاء مزيد من نكهات القسر والإرغام، الأمر الذي يختلف بشكل جوهري عن مفهوم الدبلوماسية، وكلينتون التي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي تؤمن هي الأخرى بـ “نشر الديمقراطية” عبر الإكراه، إلا أن اللافت هو أن تصريحاتها تلك صدرت بعد ساعات من إعلان أوباما عن استراتيجية جديدة للأمن القومي اعتبرها عدد من المراقبين بأنها إبطال لنهج بوش الابن الذي ينتهج القوة العسكرية فقط عبر الحروب الاستباقية، ليعيد أوباما مفهوم القوة الناعمة إلى العمل من جديد.
تتابع كلينتون: “إن بلادنا ليست أقل قوة، ولكنها بحاجة لتطبيق قوتها بطرق مختلفة”.
لكن كيف ستكون ردة فعل باقي الأقطاب– سواء كانت هذه الأقطاب صناعية أو تجارية أو سياسية أو عسكرية- على محاولة الولايات المتحدة التسلل من “شباك” الضغط الاقتصادي بعد أن تبيّن أن عبور الباب العسكري ليس بالأمر السهل.
يعتقد البعض أن عالماً تتعدد فيه الأقطاب التي سادت خلال فترة الحرب الباردة سيكون أكثر أمناً، وما ذاك إلا ترديد لأدبيات الليبرالية الحالمة، إلا أن النظرة الواقعية تشير إلى أن عدد الأقطاب الفاعل في مجالات الردع والضغط الاقتصادي سيؤدي إلى السعي وراء التمسك بالبقاء وإثبات الوجود بوسائل القوة الناعمة والخشنة اللتين توفرهما العولمة بسهولة ويسر.

الفوضى الناعمة
مازالت الحرب التجارية قائمة حتى وقت كتابة هذا المقال، وما بين الاقتصادين الصيني الادخاري والأمريكي الاستهلاكي، هناك سبعمئة ألف وظيفة مهددة في البلد الذي بدأ تلك الحرب، وسبعمئة ألف وظيفة مهددة في الصين، وخارج الصين وأمريكا هناك 1.2 تريليون دولار تعود للخزينة الأمريكية قد تطرحها الصين- التي تمتلكها- للبيع، الأمر الذي قد يلحق أضراراً فادحة بالاقتصاد العالمي، ويبقى السؤال: ماذا فعل من لا ذنب لهم؟!.