دراساتصحيفة البعث

صراع الظل الأمريكي ومفهوم القوة الواقعي

د. عامر الربيعي
كاتب من العراق
شهدت المساحة التاريخية للعالم خلال السنوات الماضية حركة ذات وتيرة متسارعة في المجالات السياسية والعسكرية والجغرافية السياسية فرضت تغييراً في مفاهيم القوى في العالم نتج عنها إفرازات عالمية، فرضت هيكليتها الاقتصادية والجغرافية والبشرية انعكاساً على ميزان القوى فيه، وتغيّر مفهوم القوة الأحادية إلى مفهوم عالم متعدّد القوى والأقطاب. هذا التغيّر أخذ حيزاً لدى صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية لما يتوجب عليهم من إعادة تعديل النظام الدولي إلى نظام متعدّد الأقطاب وتكييف توازنه كنسق دولي تعترف به الدول العظمى، وهذا ما لا تريده الإدارة الأمريكية الحالية التي آلت على نفسها القيام بعملية استنساخ شخوصها على قالب دونالد ترامب على أن تعترف بهذا النظام الجديد، فليس من قبيل المصادفة أن يتمّ استخدام الإدارة الأمريكية الحالية من قاعدة “نريد الواقع كما هو مطلوب منا”، أي أنهم ينطلقون من الصورة التي رُسمت لهم ذهنياً فيحاولون تجاوز “إدراك الواقع كما هو موجود” في النظام الدولي، هذا النظام الذي بدأت تتشكل فيه أنظمة وأنساق دولية تشير إلى تغيّر طال الأسس التي يقوم عليها ميزان القوى، حيث بدأت أطرافه تتفاعل فعلياً مع النظام الدولي الجديد لما تمتلكه من عوامل الاستقطاب، وهذا ما ينطبق واقعاً على الصين وروسيا والهند الذين ينتمون إلى إرث وتاريخ ومركز حيوي أكثر عراقة وأهمية من الولايات المتحدة الأمريكية، ولنأخذ الصين على سبيل المثال حيث تتمتّع هذه الدولة بعدد من المزايا منها:
-الدولة الأولى في العالم في الطاقة البشرية وفي التصدير.
-الدولة الثانية من ناحية الاستيراد وما يترتب عليه من قدرة استهلاكية.
-لديها القدرة على عدم إظهار نيّاتها الحقيقية، ويبقى بلداً لا تدرك الولايات المتحدة مدى تطلعاته.
-لا تنشد الصين الوصول إلى مصاف الدول العظمى فهي دوماً تقدم نفسها إحدى الدول النامية المتقدمة والمتطورة.
-أينما تتواجد الصين في العالم يكون وجودها قائماً على المنفعة المتبادلة والتنمية المستدامة، وهذا عكس مفهوم الولايات المتحدة الأمريكية.
-الصين دولة مهيأة جغرافياً وسياسياً وعسكرياً وحتى بشرياً لتحدي قرارات الولايات المتحدة المربكة للسلم العالمي.
لذلك من الهزل السياسي من وجهة النظر الاقتصادية بإقرار أن هناك قراراً أمريكياً قابلاً للتنفيذ من قبل الصين أو حتى مجرد التفكير بأن الصين ستمارس لعبة الانصياع للأوامر “الترامبية” القلقة!.
لذلك فإن رفض الصين للقرار الأمريكي بالتوقف عن شراء النفط الإيراني متأتٍ من وجهة النظر الصينية في التعامل مع القضايا والأزمات على الساحة العالمية التي أصبحت أحد أقطابها المؤثرة على القرارات الأمريكية والساحة الدولية بحكم وجود الصين وتداخلها على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد العالمي، فهي عنصر فاعل في منظمة جنوب شرق آسيا التي انضم إليها أيضاً كلّ من روسيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية، هذه المنظمة التي وضعت خططاً اقتصادية تصل بها إلى أن تكون قوة على غرار الاتحاد الأوروبي حتى نهاية عام 2025.
كما أن للصين دوراً فعالاً في منظمة “بريكس” العالمية التي تضمّ أقوى الاقتصاديات العالمية، إضافة إلى الصين توجد الهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، حيث أعطى مؤشر النمو لدى هذه البلاد ارتفاعاً ملحوظاً في مجالات عدة، اتفق أعضاء هذه المنظمة على ضرورة الاعتراف بأن العالم أصبح ذا أقطاب متعدّدة، وأن مفهوم القطب الواحد قد انتهى، وهذا ما فرضته أزمات الشرق الأوسط وتداعياتها على الساحة العالمية من جهة، وطرق تعامل كلّ من الصين وروسيا مع هذه الأزمات، سواء في العراق أو في مصر واليمن وليبيا وسورية وهي وجهة نظر مقاربة لوجهة النظر الإيرانية تجاه جيرانها العرب، إضافة إلى اتحاد الرؤى الصينية والروسية تجاه إيران، وهي رؤى تختلف جذرياً عن الرؤية الأمريكية لإيران، من جهة ثانية.
هنا يتضح الامتعاض الأمريكي من الظهور الواضح والواثق لأنساق القوى العالمية في الشرق الأوسط الذي أعطى نتيجة بدأت تتضح صورته، ألا وهو “الانعزال الأمريكي” الذي قاد الإدارة الأمريكية إلى التهور وعدم القبول بالأمر الواقع بعدم قدرتها بعد الآن على أن تتحكم بالشرق الأوسط مما أثار المخاوف الأمريكية، لذلك فإن الحرب التجارية ضد إيران والصين وروسيا هي نوع من الردّ على مقررات قمة “بريكس” العاشرة التي رفضت الأحادية القطبية ومواجهة النزعة الانفرادية والحرب التجارية في العالم من ناحية، وما لإيران من دور في تهديد الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط سواء في لبنان أو سورية أو العراق واليمن وانزواء دول الخليج في صراعات داخلية من ناحية ثانية.
لذلك هل يقدر ترامب على إشعال حرب يحرق فيها أي وجود للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أم أن هدفه خلق فوضى في علاقات الدول مع بعضها البعض لوضع لبنات نظام عالمي جديد، هذا إذا ما علمنا أن ولادة نظام عالمي جديد يكون بانهيار حاد لأحد أقطابه الرئيسية السابقة.
في كلتا الحالتين على أي مؤسسات أمريكية يستند إليها ترامب لإصدار مثل هذه القرارات؟، أم هي قرارات خلق فوضى دولية لصالح من تقاتل الولايات المتحدة الأمريكية على الجهات الأربع؟ هل هي محاولة لإعادة الأحادية القطبية أو إعادة الثقل الأمريكي أمام الروسي والصيني؟.
كلما ضغطت الولايات المتحدة سلباً، دفعت دولاً جديدة في دائرة التحدي لسياساتها، ويزداد التخبط والانعزال الأمريكي مع كثرة الدول التي تتفاجأ بالوقاحة الأمريكية، وبالتالي يكون من ضمن الحلول الواجب اتخاذها من قبل دول العالم مواجهة هذا النفوذ الأمريكي لأنه أصبح في فضاء سياسي لأنساق دولية متكاملة أمامها ترامب الذي يعمل على شاكلته.