ثقافةصحيفة البعث

“حفلة على الخازوق”.. مأساة واقعية في غلاف كوميدي

 

يعتبر اللجوء إلى الكوميديا في أي عمل مسرحي، في حال نجح، ضمانة لشد الجمهور إلى التفاعل معه من بداية تعتيم الفضاء المسرحي إيذانا ببدء المشهد الأول، وحتى تحية النهاية.لأن الكوميديا هي الأقرب إلى الناس من أي شكل آخر من أشكال الدراما،لكونها تؤمن للمتلقي حيزا من الوقت يخرج فيه من رتابة الحياة اليومية، شرط سمو الكوميديا ورقيها ، وامتزاجها بالحياة اليومية.
وأعتقد أن الفنان زيناتي قدسية معد ومخرج العرض المسرحي “حفلة على الخازوق” الذي عُرض مؤخرا على خشبة مسرح دار الثقافة بحمص، قد نجح في تحقيق جل هذه الشروط المتضافرة، فقد وضع جمهوره، على مدى ساعة ونيف، أمام حالة كوميدية هجائية ساخرة، يتربع الممثل فيها على قمة العناصر المسرحية دون أن يضطر لاستجداء التفاعل مع المتلقي،معتمدا أسلوب الإضحاك الشعبي للتوصل االى طرح ما هو جاد ضمن قالب هزلي، حامله الأساسي ممثل بارع نجح في تقمص دوره، دون أن نغفل اشتغال قدسية على نص محفوظ عبد الرحمن المأخوذ عن حكايات “ألف ليلة وليلة” ليجعله أكثر ملاءمة وقربا من لغة الجمهور المتنوع ثقافة وفكرا وأسلوب حياة، الجالس في الصالة والذي جله من الشباب، من خلال تطعيم النص ببعض الأغاني الشعبية الدارجة الموظفة بحرفية عالية، واللجوء إلى اللهجات والمفردات المحكية والمتداولة في يوميات الناس العاديين، لمخاطبة شرائح مختلفة، دون السقوط في مطب الإسفاف والتهريج، وهذا يعود إلى الخبرة الإخراجية لقدسية صاحب الباع الطويل في العراك مع الفضاء المسرحي، الخبرة التي تجلت في إدارة حركة الممثلين لترسم مشهديه تشكيلية عززت الفكرة وساندتها دون الاستفاضة في الإبهار، لذلك نجده لم يبالغ في الاستعانة بالسينوغرافيا، إلا بما يخدم النص، فكانت الإضاءة والمؤثرات والموسيقى والمجاميع والأزياء والديكور كلها حاضرة لتروي لنا شيئا ، وليس فقط لمجرد ملء فراغات على الخشبة. وهنا لابد وأن نخص الأزياء بدلالتها الإيحائية، لاسيما أزياء السجانين التي أرادها تحاكي أزياء البدائيين، أو المتوحشين، كنوع من القراءة الضمنية للحالة السيكولوجية التي يكون عليها جلادو السجون عموما. ليتدرج، بعدها بالأزياء حسب كل موقف ومشهد، فالقاضي المحتسب يرتدي عباءة التقوى والإيمان البيضاء التي يخفي تحتها جوهره الأسود، ثم نائب الزعيم المتبجح بلغته المطعمة بالمفردات الأجنبية ببدلته الرسمية الأنيقة.
أما الرجل الذي أدى أدوارا عدة “محمود خليلي” من مساعد رئيس السجن إلى مستشار المحتسب ومساعد النائب، فقد ارتدى الزي الذي يصلح لكل مرحلة ومسؤول، فهو نموذج للرجل المتلون الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، رجل كل المراحل، وشخصية الفساد الخفي الزكية التي تدير لعبة الفساد باحتراف شيطاني.
تدور قصة “حفلة على الخازوق” في دولة ما، وزمان غير محدد، دولة يديرها رجال فاسدون يعينهم حاكم لاحول له ولا قوة، يقوم هؤلاء بظلم الناس واستغلال ضعفهم، يبحث رجال السجن عن كبش فداء تنفذ بحقه عقوبة الخازوق، التي اخترعها العثمانيون، لإثبات ولائهم للحاكم وحرصهم على سلامته، يرى مدير السجن فتاة جميلة “هند” تسير على الشاطئ، يعجب بجمالها فيراودها عن نفسها، ولأنها ترفض يقرر الانتقام منها باعتقال خطيبها الصياد المسكين حسن عبدالله فرج الله واقتياده إلى السجن.
تسعى هند لتخليص حسن من بين أيديهم وإخراجه من السجن، فتلجأ إلى رئيس السجن الذي يعدها بإعطائها صك براءة حسن بشرط دعوته إلى منزلها يوم الخميس، لكنها ترفض وتنقل مظلوميتها إلى القاضي المحتسب الذي لا يكون أكثر استقامة من سابقه ويطلب منها ذات الطلب، فتذهب إلى نائب الزعيم المتبجح الذي يراودها هو الآخر. تصل هند إلى مكيدة دعوة الثلاثة إلى بيتها وهناك تنجح في سجنهم داخل صناديق متوضعة فوق بعضها البعض، صنعها النجار أبو ردينة، وتحضر الزعيم لرؤيتهم على هذه الحال. ورغم أن الزعيم يعاقبهم ويقيلهم من منصبهم، إلا انه يعين الرجل المتلون،الذي استغل قضية الفتاة للتخلص منهم، مساعدا له ويكلفه بتعيين رجال دولة آخرين، لتعود المأساة إلى نقطة البداية مع فاسدين جدد يعينهم رجل المراحل والأزمنة. ليخلص العرض إلى نتيجة عدم جدوى التعاطي مع مرض مستشر لا علاج له سوى بتر كل الأعضاء المصابة، في دولة يمتزج فيها الأبيض بالأسود، والحق بالباطل، وكلٌّ يحمل سجنه على ظهره، والشاطر من يسبح مع التيار، كما يقول المساعد”
حرص قدسية في العرض على عدم إرجاع الحكاية إلى زمن محدد بل جعلها حالة تحاكي كل الأزمنة من خلال التنوع في الأزياء بين العصري والقديم.
برع الممثلون كافة في أداء أدوارهم بإتقان، لكننا لا نستطيع إلا أن نميز الفنان جمال العلي الذي كان بحق نجم العرض، هو المعروف عنه نجاحه وبراعته في أداء هذا اللون من الدراما التي تشهد له مقدرته الفائقة على استنطاق الشخصية وابتكار وسائل التعبير والحلول الناجعة للخروج بكاركتر مستحب جماهيريا.
النجم الآخر كان الجمهور الذي غص به المسرح وشاهد قسما كبيرا منه العرض وقوفا، أو افترش الممرات، مترفعا عن سوء معاملة المنظمين الذين تعاملوا مع الاحتفالية المسرحية بعقلية الموظف لا بعقلية المثقف المؤمن بالمسرح ورسالته السامية، فلم يكن مبررا، طالما أن الدعوة عامة، وقوف رجلين على باب المدرج لفرز الناس حسب مزاجية كل منهم ومعرفته بالشخص، بين من يجلس في الصالة ومن يصعد للجلوس في “البلكون” المخصصة للعروض السينمائية والخطابية وليس المسرحية، وهم يعلمون مسبقا أن الجلوس في “البلكون” يحرم الشخص من مشاهدة جزء كبير من العرض لأن قسما غير صغير من مساحة الخشبة غير مرئي من على “البلكون”، ولم يكن مبررا حجز أكثر من أربعين كرسيا بحجة حضور المحافظ وأمين الفرع للعرض، وهم يعلمون أن الاثنين مع مرافقيهما لا يشغلون أكثر من عشرة كراس، لكن ضريبة التعاطي مع الشأن الثقافي بعقلية الموظف لابد وان يدفعها الجمهور المتعطش دائما لهكذا نشاط أجزم أن الكثير ممن حضر “حفلة على الخازوق” خرج كما دخل إلا من بعض صور “السيلفي” داخل المسرح لا أكثر.
يؤدي الأدوار في العرض: جمال العلي، صفاء رقماني، محمود خليلي علي كريم، رائد مشرف، زهير البقاعي، قصي قدسية، مصطفى المصطفى، نورس أبو علي. وزيناتي قدسية.
آصف ابراهيم