ثقافةصحيفة البعث

حسن ملحم:الإنسان واللون والشعر محور الحياة وغايتها

 

يُولد الإنسان محباً لكل الأشياء التي تحيط به بالفطرة ويحب رسمها، لكنه يهمل ذلك في البداية وقد يكتشفه متأخراً، وفي النهاية يحتاج اكتشافه إلى رعاية واهتمام من قبل الواعي والمثقف،فالفطرة مهمة جداً وعلينا تنميتها وصقلها من خلال البحث في عالم الذات واكتشاف مقدرات النفس، بهذه المقدمة عرف الفنان حسن ملحم وهو فنان تشكيلي سوري ورسام وشاعر نفسه وحبه للرسم بفطرته الأولى، فهو  من مواليد قرية حنجور التابعة لمحافظة حماه، درس الفن في إسبانيا وحاز على جائزة الإبداع الدولي ومجموعة من شهادات التقدير وله معارض فردية في سورية والخارج تجاوزت /210/ معارض.

يستعين الفنان ملحم بالإنسان بشكل عام ويعتبره أهم العناصر بتصوير أعماله الفنية، وهو محور الحياة ووجودها، كما يرى أن اللون مكون أساسي في اللوحة، والموضوع يفرض الألوان التي تناسبه للاكتمال، ويضيف: بالعموم أنا أميل إلى ألوان الطبيعة، لأنها تضفي صفاء ونقاء على المشهد المتخيل، وتعكس روح الفنان الداخلية ونظرته للحياة، وأحيانا اللون هو وسيلة للتحدث عن موضوع اللوحة التشكيلية، فمثلاً اللون الأزرق يتحدث عن السماء والبحر والجرأة ودلالته الحِدّة والقوة والغموض، وأحيانا يكون اللون غاية للكشف عن مشاعر ما، خيرة ربما أو شريرة مخبأة في عمق الذاكرة، فتظهر مثلاً بتصوير مشهد واقعي كثير المعالم والتفاصيل، فعندما يكنّ الفنان في داخله مشاعر ما محتجبة بالكتمان ويحاول أن يصور مشهداً واقعياً دون محاولة التغيير في ألوانه الطبيعية، فإنه يعمد إلى التشريح الدقيق في إظهار أجزائه ومعالمه ويكون قد بلغ تلك الغاية، فاللوحة كما يقول :«عمل متكامل لا يمكن فصل شكلها الخارجي عن مضمونها وموضوعها الذي تتحدث عنه، وهي في النهاية انعكاس لشخصية رسامها وتجربته الحياتية».

تنوع الأساليب

الفنان ملحم في رحلة بحث دائم ومستمر في جميع الأساليب “الواقعية والانطباعية والتعبيرية والتجريدية، ويميل إلى أسلوب معين، لكنه يفضل أن يبقي باحثاً عن إثبات وجوده، حتى يصل في النهاية إلى إيجاد لغة حوارية تخلقها شخوص لوحته وتقترب بدورها من المتلقي وتوائم مفاهيمه المتعددة. وعن الدقة في العمل الفني يعتبر ملحم أنها تأتي حين يحاول الفنان إظهار أجزاء صغيرة من مشروعه، خاصة في “البورتريه” والأعمال الفنية الصغيرة، المصورة للزهور والطبيعة الصامتة، لكن إيصالها إلى ذروة الجمال والتشريح الفني الصحيح يتطلب خبرة ومهارة تأتي عبر التجربة الطويلة ومعايشة الإنسان والطبيعة التي يستوحي منها عوالم الخيال والفكر، وبعد متابعته للحركة التشكيلية محليّاً وفي العالم وجد ملحم أنه لا بدَّ من وضع بصمته الخاصة في الفن الذي اختاره لمستقبله، ويكون بذلك مخلصاً للمتلقي وعليه أن يلامس خصوصية لوحاته التي وضعها أمامه وجسد فيها عدّة مواضيع توائم  اختياراته المشهدية، لأنه بعمق التصور استطاع الوصول إلى الغاية المرجوة، فهو يميل إلى التجريد البحت، فلا يوجد نمطية في المذهب التجريدي، وإنما جمع تراكمات حياتية وتحليلها واختزالها إلى لوحة، والتقليد وحده هو الذي يخلق النمطية والتكرار وهذا ضعف، فالتجريد مفهوم سامٍ، عبره نستطيع تخطي الواقع وكسر المألوف والدخول في مسارات الخيال، كما يرى ملحم “الحداثة” وليدة الإلهام يحدده اختيار المشهد البصري، والإلهام وليد للحظة معينة تمرّ في حياة الفنان، فعندما يستمر في التجريب ويتابع ما يجري حوله من حداثة ومعاصرة يدفعه ذلك إلى استنهاض الأفضل في عمله محاولاً أن يرقى عمّا قيل أو كتب أو رسم. أما التصورات المحدثة في اللوحة، فتأتي بعد رؤية ما أنتجه الآخرون من تصوراتهم ومشاهداتهم وقراءاتهم، وأحياناً تتعدى التصورات الحداثة إلى ما بعدها، وتكون أكثر مقاربة وتلامساً مع إحساس الآخر، ويعتبر ملحم أن حرية التشكيل والأداء في العمل الفني تتطلب المشاركة الجماعية في المعارض المشتركة، وتحديداً من الشباب، وهي تحفيز لجهودهم وموهبتهم الفنية في خلق منافسة شريفة توجد انطباعا تذوقيا للأعمال ونقدا جماليا بناء، كما يدعم العمل الدؤوب والمتواصل لسنوات عديدة، فكلُّ يُعبّر عن موهبته بحريَّته محاولاً صقلها من خلال بحثه الدائم، وعرض ما يختزنه في مفكرته الحفظية من مفردات وأفكار وتجارب يبدع من خلالها، ورغم كل الظروف والانحدارات التي طرأت على الحياة المعيشيّة، وأثرت في حاضر الإنسان المعاصر، إلا أن الفنان استطاع أن يقاوم الصعوبات بالصبر والمثابرة، وإنجاز أعمال مختلفة، بعضها طاول أفق الخيال وانفتاحه الطلق، والعمل يبقى مخلداً بعد الموت، يحمل ذكرى مبدعه إلى أجيال وأجيال متعاقبة، فبالتأكيد قيمة العمل الإبداعي مرتبطة بقيمة مبدعه وذاته، سواء كان فناناً أو أديباً أو فيلسوفاً أو مخترعاً، ومن حقه أن يغاير تطلعات جميع شرائح المجتمع ويتحدى السائد وينطلق إلى ما هو أفضل وأسمى لمصيره، ويجد ملحم أن التأثر بالفن قائم على المشاهدة والمتابعة، وبقدر ما يزداد العمق والتواصل بقدر ما يزداد النضج والتأثير، بالتالي سيثار الرأي والسجال بين المتفرج والفنان والناقد، والنتيجة انعكاس مثالي يستشفه المحاور من الغاية والتحليل، فيرتقي به إلى أفق المحاولة والتجريب، وإن كان على غير علم بمدارس الفن، فالقدوة الحسنة تفرض مثاليتها ووجودها في مختلف المجالات، وكثيرون بلغوا المجد بهذه المؤثرات.

الشعر والتشكيل

وتترافق تجربته التشكيلية مع ميول شعرية إذ يعتبره متنفسا للبصيرة فيما تملكه من الرؤية والحدس، وحالة وجدانية تعكس صوراً نتخيلها ونعيشها بين مقامات الحنين والحب والصفاء. إنه البداية وحدس النهاية الحكمة والبعد، وثورة الغضب، ومفردات الشعر إيحاء الشكل للفنان، يترنم بها مع إيقاع الريشة واللون. إنه الصياغة المنسوجة بالتعاطف والنداء. وهو “ناي” تستفيق بلحنه هواجس الفنان وأحلامه فتصبح الكلمات وحياً يثير ذاته إلى الهيام والاقتباس ومن وحي تجربته:

«جمالاً كوجه الصبح مبتسماً

شكلاً وعقلاً وتمجيداً لمن خلقا»

«بـتّ بـه أشاطر الصبـا أنفـاً

بين الخمائل والألوان والطبقا»

وتحظى دمشق بموقع خاص في تجربته الفنية فدمشق التي احتضنت الكثير من  المغتربين في البلدان العربية وحتى العالمية، فضلاً عن احتضانها للثقافة، تعدّ تحفة فنية بما تتميز به بيوتها وحاراتها الشامية وأسواقها القديمة من عراقة وفن معماري تراثي جميل، من هنا تتضح مكانتها التي تستحق الاهتمام والتقدير من كل الفنانين عموماً.

والفنان حسن ملحم حقق لنفسه على مدار خمسة عشر عاماُ الماضية حظوة ومكانة في الفن التشكيلي السوري حيث عرف ببحثه الدائم عن صياغة المشهد الجمالي، بواقعية دقيقة ، وبعد سنين من الصبر والعناء سنحت له الظروف ليقوم بجولة في أوروبا تعرف من خلالها على مستجدات الفن المعاصر والمعارض العالمية المقامة، وكانت هذه الرحلة فرصة لإقامة معرض شخصي متنقل و”رؤية” قدمها للمتذوق الأجنبي، ولاسيما أن موضوعات الأعمال مستوحاة من “دمشق” وطبيعتها الهادئة.

رشا سليمان