تحقيقاتصحيفة البعث

البحث العلمي في كلية التربية عقبات تواجه الباحثين.. وأبحاث نوعية مصيرها غبار الزمن ورفوف المكتبات

من الطبيعي أن يواجه أي مجتمع متحضر عدة مشكلات على صعيد النظم التربوية، والبنية النفسية، والانفعالية، والاجتماعية لأفراده، وبالمقابل فإن تلك المجتمعات تسعى جاهدة لإطلاق كوادرها البشرية للبحث بمنهجية علمية في تلك المشكلات، وإيجاد الحلول المناسبة لها بجدية، واقتراح الخطط والبرامج والاستراتيجيات، أو تقديم دراسات لوصف الظواهر التربوية، أو النفسية، أو الاجتماعية، أو القيام ببحوث تطبيقية تعتمد المنهج التجريبي، ودائماً كانت كليات التربية وعلم النفس في مختلف دول العالم المتقدم أو النامي من أهم مؤسسات المجتمع التي تسهم في تحقيق هذه الغاية، نظراً لما يقع على عاتقها من وظائف متعددة هدفها ربط الجامعة بمشكلات المجتمع، والبحث في مختلف قضاياه التربوية، والنفسية، والاجتماعية، بما يسهم في رقي المجتمع، وتحقيق أهدافه.
تاريخ عريق
تأسست كلية التربية بجامعة دمشق عام (1946) باسم المعهد العالي للمعلمين، وكانت ومازالت تسعى إلى تطوير نفسها مستفيدة من مختلف الخبرات والتجارب المحلية، والعربية، والأجنبية، مستجيبة لمتطلبات المجتمع، وحاجات التنمية في مجال التربية وعلم النفس، إذ أدركت الإدارات المتعاقبة للكلية ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقها في إعداد الكوادر البشرية للعمل في المجالين التربوي، والنفسي، بالتعاون مع مثيلاتها من كليات التربية في الجامعات السورية، إذ تتضمن كلية التربية بجامعة دمشق تخصصات علمية دقيقة: (أصول التربية، المناهج وطرائق التدريس، تقنيات التعليم، التربية المقارنة، تربية الطفل، الصحة النفسية، معلم الصف، علم النفس بمختلف فروعه كعلم النفس التربوي، وعلم النفس الصناعي، والإرشاد النفسي، والتقويم والقياس التربوي والنفسي، والتربية الخاصة بالمتفوقين والمعوقين)، وبعض تلك التخصصات الدقيقة لا تتوفر في كليات التربية الأخرى بالجامعات السورية، كما تخرّج كلية التربية بجامعة دمشق العشرات من حملة شهادة الدراسات العليا: (ماجستير، دكتوراه)، وتسعى لتأسيس تخصصات علمية حديثة كان آخرها تخصص (اضطرابات النطق واللغة)، ورغم كل تلك الجهود الجبارة خلال العقود الماضية، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن جميع تلك البحوث والدراسات والرسائل العلمية والأطروحات تبقى حبيسة المكتبات، ولا ترى النور لتطبيقها ميدانياً، ولا تتم الاستفادة منها لدعم القرار في الوزارات والجهات العامة ذات العلاقة.

تلامس المشكلة
لمى الحلاق، طالبة دكتوراه تخصص تقنيات التعليم بقسم المناهج وطرائق التدريس، أشارت إلى عدم فاعلية مكتبة الكلية، وعدم رفدها بالمراجع والمصادر الحديثة في مجالات التربية وعلم النفس، إضافة للمشكلات المتعلقة بأرشفة الكتب التي لاتزال أرشفة ورقية غير مؤتمتة، وتستهلك الكثير من وقت وجهد الطالب عند محاولة البحث عن أي مرجع أو كتاب، كما تفتقر المكتبة إلى منافذ للبحث الالكتروني عبر الأنترنت، إضافة لبعض الصعوبات المالية التي تطال الباحثين كغلاء بعض المراجع، أو المقاييس النفسية والتربوية، أو أن بعض التخصصات الفرعية ضمن كلية التربية قد تتطلب من الباحث إجراء تجارب مضبوطة وعالية الكلفة، كما أشارت الحلاق إلى أنه عندما يسعى الباحث لتسجيل موضوع أصيل وحديث وغير مطروق سابقاً فإنه قد يواجه بمشكلة عدم توفر المراجع العربية المتخصصة، أو عدم اتفاق الأساتذة الجامعيين في القسم المختص على كثير من الخطوط العريضة المتعلقة بهذا الموضوع، ما يجعل الباحث يغوص في غياهب الاختلاف في وجهات النظر.
خريجون جدد
وليم العباس، حاصل على درجة الدكتوراه بتخصص القياس والتقويم التربوي والنفسي، وعضو الهيئة الفنية بكلية التربية بجامعة دمشق، بيّن أن الأزمة السورية أثرت بشكل سلبي على مسيرة البحث العلمي، لاسيما ما يتعلق منها بحرمان الباحث السوري من نشر أبحاثه خارجياً في مجلات عربية أو أجنبية تتبع لدول اتخذت مواقف سلبية من الدولة والشعب السوري، ما جعل الكثير من مصادر المعلومات أو المراجع محظورة على جميع الباحثين السوريين، كما أشار العباس إلى صعوبة الوصول إلى العينات البشرية التي قد يحتاجها الباحث لإجراء دراسته في المجال التربوي أو النفسي، فقد يحصل الباحث على الموافقات الرسمية المطلوبة لتطبيق البحث أو التجربة، إلا أنه قد يواجه بعوائق ثانوية تحول دون إنجاز تلك الدراسة في وقتها المحدد، كمشكلات الدوام الرسمي، أو عدم رغبة بعض الأشخاص بأن يكونوا جزءاً من عينة الدراسة، أو إعطاء الباحث موعداً لاحقاً لتطبيق أدواته البحثية، لاسيما في المدارس، أو المعاهد، أو بعض الكليات، حيث يواجه الباحث بعدم تعاون بعض المسؤولين معه، وعليه فقد اقترح العباس وجود مراكز بحثية مستقلة تابعة لكليات التربية في الجامعات السورية، تتوفر فيها كافة التجهيزات، ويمكن دعوة العينات البشرية إليها، وهذا ما نفتقده على الصعيد المحلي.

عدم وجود منهج بحثي موحد
الدكتور سليمان كاسوحة، الأستاذ المساعد في قسم علم النفس بكلية التربية بجامعة دمشق، بيّن أن عدم وجود منهج بحثي موحد ومتفق عليه بين جميع أقسام كلية التربية يعتبر من أهم العوائق التي تقف عقبة أمام طلبة الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وهذا ما يجعل طلبة الدراسات العليا يوجهون اهتمامهم إلى الشكل الخارجي للدراسة، ولا تعطى لهم الحرية الكافية لدراسة جوهر المشكلة البحثية (أو الموضوع البحثي)، كما أن الجامعات السورية ليست لديها منافذ الكترونية مرتبطة بجامعات الدول المتقدمة، أو مراكز البحوث والدراسات التي لها عراقة على المستوى الدولي، واقتصار معظم الأدوات البحثية التي يستخدمها طلبة الدراسات العليا على الاستبيانات، والاختبارات، والمقاييس الورقية، في حين أن التطورات العلمية في مجال التربية وعلم النفس بيّنت أن البحوث النوعية تحتاج إلى تجهيزات، ومخابر نفسية، ومراكز بحوث ذات تجهيزات حديثة وخاصة: (مخابر لغوية، حقائب تعليمية، عيادات نفسية)، والتي لا يمكن تأمينها إلا من قبل الدولة، وليس باستطاعة طلبة الدراسات العليا تأمينها لإنجاز بحوثهم التطبيقية.
وفي سؤال آخر حول المعوقات التي تحول دون تطبيق الأبحاث النوعية التي أنجزها بعض الطلبة المتميزين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، فقد أكد د. كاسوحة أن السبب في ذلك يعود إلى وجود فجوة وانفصال بين الجامعة وما قدمته من دراسات وبحوث نوعية، والمجتمع المحلي، فالباحثون موجودون فقط داخل حرم الجامعة فقط، ولم تتح لهم الفرص الكافية للانطلاق والبحث في القضايا التربوية والنفسية بحرية، كما لم تتح لهم الحرية الكافية لتقديم الحلول وتنفيذها، فكلية التربية بجامعة دمشق– وفق الإمكانات المتاحة– تتوفر فيها بيئة مشجعة للبحث العلمي، لكنها بيئة نظرية فقط، وتحتاج إلى جهود مضاعفة لربطها تطبيقياً بالمشكلات الواقعية للمجتمع، وهنا على الجهات المعنية في مختلف مفاصل الدولة تقديم مبادرات مناسبة لتشجيع الباحثين على تطبيق أبحاثهم بشكل ميداني، والاستفادة من نتائج ما قدموه من بحوث ودراسات لعلاج مختلف المشكلات التربوية، والتعليمية، والنفسية، والاجتماعية.

غياب التمويل
الأستاذة الدكتورة رغداء نعيسة، رئيس قسم الإرشاد النفسي بكلية التربية بجامعة دمشق، تشير إلى أن غياب التمويل من الجهات المعنية للأبحاث النوعية التي أجراها عدد من طلبة الدراسات العليا المتميزين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وعدم التنسيق بين الجهات ذات العلاقة (بين الجامعة والجهات الحكومية الأخرى) لوضع آلية محددة وواضحة لكيفية الاستفادة الميدانية من تلك البحوث والدراسات، بالإضافة لأسباب أخرى عديدة جعلت تلك البحوث والدراسات حبيسة الرفوف، ناهيك عن صعوبات أخرى يواجهها الباحثون، تأتي في مقدمتها قلة عدد أعضاء الهيئة التدريسية في كل قسم من أقسام الكلية، بما لا يتناسب مع أعداد طلبة الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.

تقييم الواقع
هموم ومنغصات تم إلقاء الضوء عليها من زوايا متعددة، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن تطوير عملية البحث العلمي ليس مسؤولية جهة معينة دون أخرى، فكل أطراف العملية التعليمية في الجامعة، والمجتمع المحلي، والجهات الحكومية، ومنظمات المجتمع الأهلي، والإعلام التربوي، معنية بهذه القضية التي هي على درجة عالية من الأهمية، فسرّ تقدم الأمم وتحضرها يكمن في إعطاء أهمية وقيمة مضافة للأبحاث النوعية التي ينجزها طلبة الدراسات العليا، وعبر التاريخ تم رصد مجتمعات وحضارات كانت منسية، وفي غياهب الجهل والتردي الثقافي، فكان سبيل نجاحها وتطورها هو العناية بمواردها البشرية ذات الخبرات البحثية النوعية.

حسام سليمان الشحاذه