دراساتصحيفة البعث

لماذا إيران؟

د. سليم بركات

لو كانت فلسطين جغرافيا أو ديمغرافيا فقط، لقلنا إنها لا تعني إيران لكونها خصوصية وطنية قومية، أهلها الأولى بها، والأعلم بشؤونها، لكن فلسطين قضية، ولأنها كذلك فهي محط اهتمام شعوب العالم، وعلى وجه الخصوص شعوب هذه المنطقة، بمن فيهم الشعب الإيراني، وهذا يعني أن طبيعة القضية الفلسطينية هي الأساس الناظم لطبيعة العلاقات بين الشعبين العربي والإيراني كونها القضية المركزية للشعب العربي بالدرجة الأولى، وللشعوب الإسلامية بالدرجة الثانية، بالدرجة نفسها أو أقل بحسب مواقف هذه الشعوب منها، إنها في نظر قطاعات واسعة من شعوب المنطقة والعالم قضية العرب والمسلمين معاً، ولأنها كذلك فهي بامتياز قضية الشعب العربي الفلسطيني المشرد، أو مسألة الأمكنة المقدسة بالنسبة للشعوب الأخرى، ولما كانت القضية المركزية للعرب والمسلمين حتى ولو جزئياً، فلابد أن يقع وزر تحريرها على من يعتبرها قضيته المركزية الأولى أكان عربياً، أم إسلامياً.

من هذا المنطلق لا يصح إيداع تقرير مصير فلسطين في أيدي الشعب العربي الفلسطيني وحده، لأنه في مثل هذا الإيداع سيكون الشعب العربي الفلسطيني ممثّلاً بمنظمات المقاومة الحلقة الأضعف عسكرياً في النظامين العربي والإسلامي، الأمر الذي يجعل من هذه القضية ومكوناتها محور نضال الأطراف المنخرطة في الصراع مع المشروع الصهيوني، وهذا يعني أن جوهر العلاقة العربية مع الأممية الإسلامية فيما يخص القضية الفلسطينية هو علاقة الخاص بالعام، في إطار طبيعة تكاملية لاتماثلية، يلغي بعضها الآخر.

الصراع مع الكيان الصهيوني إقليمياً

ما من شك أن للبعد العربي الفلسطيني موقعاً متميزاً في الصراع العربي الصهيوني ينبع من خاصية هذا البعد، وبالتالي من مستوى احتدام التناقض بين الشعب الفلسطيني، والاستيطان الصهيوني المركز إقليمياً ضد شعوب المنطقة، ولاسيما في هذه المرحلة التي تجري فيها المحاولات، وتعقد فيها الصفقات، وعلى رأسها صفقة القرن، لاقتلاع جذور الشعب الفلسطيني المشرد، والمستبعد من وطنه تاريخياً، وحضارياً، وسياسياً، لتأمين القاعدة الاستيطانية للمشروع الصهيوني، الوظيفي الاستعماري، القائم على قاعدة تهويد فلسطين أرضاً، وشعباً، وسوقاً، ونظاماً، الأمر الذي يؤكد أهمية الحضور الفلسطيني في مواجهة هذه المحاولات والصفقات، وعلى جميع الجبهات الكفاحية، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهذا لا يعني أن تكون هذه المواجهة بديلاً للمواجهة الشعبية السياسية والعسكرية للمعسكر القومي العربي والأممي الإسلامي، وإنما يعني التكامل الميداني في التصدي للاستيطان الصهيوني، مادامت الاستهدافات الصهيونية لفلسطين المحتلة تطال دول المنطقة وشعوبها جميعاً، ولما كان الأمر كذلك، فمن الطبيعي أن يكون الصراع مع الكيان الصهيوني إقليمياً حتى تستقيم العلاقة بين هذه القوى الإقليمية في المواجهة مع العدو المشترك، وهذا لا يكون إلا من خلال التنسيق بين أطراف هذه المواجهة، تلافياً للوقوع في التناقض داخل المعسكر الواحد، وهو تناقض يسعى التحالف الامبريالي الصهيوني إلى إيجاده داخل محور المقاومة.

إن نهوض القوى الإقليمية بدورها الطبيعي في الصراع المفتوح مع الاستعمار الصهيوني ومن لفّ لفّه يستوجب أول ما يستوجب صياغة ثقافية مقاومة تقوم على وعي معرفي، وفهم علمي لطبيعة هذا الصراع مع تحديد القوى المنخرطة فيه، سواء أكانت هذه القوى على جبهة الصديق، أم كانت على جبهة العدو، والأهم في هذا الإطار هو صياغة فهم علمي لطبيعة الكيان الصهيوني، ودوره في المنطقة، وعلاقاته بالمراكز الامبريالية الصهيونية، كما أن وعياً كهذا لن يتوفر على أسس غيبية أو رجعية، لأن صناعة هكذا ثقافة مقاومة تكمن في التزاماتها وخياراتها النضالية، وبالتالي في وضع الإنسان المقاوم في أعلى سلم أولوياتها، وهي لكي تكون موضوعية عليها أن تعيد الاعتبار لبرامج التحرر والتحرير، ولدحض مقولات التشويه المضللة التي أثبتت مسيرة المقاومة على أرض الواقع بطلانها، ومن ثم عليها أن تصوغ البرامج المرحلية للمقاومة بناء على طبيعة الصراع، ومستوى احتدامه في ظروف الزمان والمكان، وليس على قاعدة الأوهام الذاتية، أو الاستجابة لمرحلية العدو، لأن التحرير يتطلب توفير مستلزماته الاستراتيجية، بالابتعاد عن الارتجال، والعفوية، وأبعادهما الطفيلية والانتهازية.

إن العلاقة الجدلية التي تشكّل روابط الأمن الاستراتيجي الأعلى للمشروع الصهيوني هي نفسها الجدلية التي تشكّل روابط الأمن الاستراتيجي للمشروع المقاوم، ولاسيما في المرحلة الراهنة من الصراع بين المشروعين، ولما كان المعسكر الصهيوني على المستوى الاستراتيجي يشترط التكامل بين شقي الاستيطاني الصهيوني، والامبريالي العدواني، فمن الطبيعي أن يكون التكامل بين أطراف المشروع المقاوم ببعديه الوطني القومي العربي، والإقليمي الإسلامي كشرط أساسي لنجاعة الأداء ضد المشروع الصهيوني لدحر عدوانه، وتصفية دوره الوظيفي، وهذا ما هو واضح من دخول إيران التصاعدي على خط المواجهة لجانب المشروع المقاوم في مواجهة المشروع الامبريالي الصهيوني منذ قيام الثورة الإسلامية وحتى يومنا هذا، الأمر الذي فاقم من حالة التوتر داخل المعسكر الامبريالي الصهيوني الرجعي، وعزز من عزيمة محور المقاومة.

دخول إيران على خط المقاومة

لقد جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية رداً على العلاقات الإيرانية اليهودية التي تمتد جذورها في عمق التاريخ إلى الدولة الفارسية الموحدة، إلى (قورش) الذي أبقى هذه الفئة على قيد الحياة عندما سمح (لسبي بابل) بالعودة إلى فلسطين، ولقد استغلت الصهيونية ملوك فارس انطلاقاً من هذا الحدث التاريخي، في تكريس كيانها الاستيطاني الحديث في المنطقة، ونجحت في ذلك إلى حد كبير قبل قيام الثورة الإسلامية، ولاسيما في عهد إيران الشاه، حيث ساد التعاون بين “إسرائيل” وإيران على محورين: الأول أمني كوّنته الركيزة الأساسية في الاستراتيجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط، والثاني اقتصادي كوّنته احتياجات كل منهما للآخر، فعلى الصعيد الأمني كان التحالف بين “إسرائيل” وإيران في مواجهة الحركة القومية العربية في ضوء ما تقتضيه المصالح الامبريالية في المنطقة، على سبيل المثال لا الحصر، ومنذ الخمسينيات من القرن المنصرم، والعمل جار لبناء ما عرف بحلف القوس المحيط الذي حاول بن غوريون إقامته ما بين أثيوبيا، وتركيا، وإيران، وعلى الصعيد الاقتصادي كان النفط  الذي صدرته إيران إلى “إسرائيل” عبر أنبوب خاص بين ايلات على خليج العقبة، وعسقلان على البحر المتوسط منذ عام 1963، الأمر الذي زاد في العلاقة الحميمية بين الطرفين.

بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 انقلبت العلاقات الإسرائيلية الإيرانية رأساً على عقب، كما انقلبت الصداقة الحميمة إلى عداوة لدودة تهدد الوجود الإسرائيلي برمته، والدليل على ذلك النظرة الإسرائيلية الحالية إلى إيران على أنها على رأس معسكر أعدائها،  ولما كان من الطبيعي أن تتأثر مفاوضات التسوية بين بعض الحكام العرب والقادة الصهاينة بأحداث إيران لما لهذه الأحداث من انعكاس مباشر على مسائل الصراع العربي الصهيوني، فمن الطبيعي أن يؤدي انتصار الثورة الإسلامية إلى إرباك جميع القوى السياسية في المنطقة، ولاسيما في “إسرائيل” تحديداً، حيث الإرباكات في صنع القرار السياسي منذ اتفاق “كامب ديفيد” وحتى يومنا هذا عبر المسلسلات الاستسلامية بسبب الطبيعة الاستيطانية الإسرائيلية، وتعلّق مصيرها بالاستراتيجية الأمريكية إزاء المنطقة، وما قد يطرأ عليها من متغيرات.

من حيث الجوهر نجد الموقف الإيراني بعد الثورة الإسلامية قد أصبح قطباً إقليمياً مضاداً للمصالح الامبريالية الصهيونية في المنطقة، كما أصبح هماً صهيونياً أكبر كلما تعاظمت القوة الإيرانية، الأمر الذي يضع إيران اليوم على سكة التصادم الجبهوي مع المشروع الصهيوني المضاد لحركة شعوب المنطقة، ولأنه كذلك فقد وضع التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي إيران في خانة الإرهاب تضليلاً وعدواناً، تمهيداً لعزلها، وضربها، وإسقاط نظام الحكم فيها، وكما وقفت الصهيونية خلال القرن المنصرم ضد الحركتين الشيوعية والقومية العربية خدمة للغرب الرأسمالي الذي شكّل البلد الأم للكيان الصهيوني الاستيطاني، فهي تقف اليوم وبكل جهودها ضد إيران، وضد كل حركة إسلامية مناهضة لـ “إسرائيل” وللمشروع الصهيوني برمته.

إن إيران تقع في منطقة الخليج بؤرة الاهتمام الأولى للمصالح النفطية الغربية، وبخاصة الأمريكية التي ترى في النظام الإسلامي الإيراني خطراً على الدور الوظيفي لـ “إسرائيل”، والذي هو الدور الأهم لحماية هذه المصالح في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إيران محاذية لروسيا، وأمريكا تسعى لإخضاع إيران من أجل تطويق روسيا، ولما كانت إيران في وضعها الراهن تمتلك القدرة على تقطيع هذه السلسلة من التطويق، وهي تشكّل عاملاً معرقلاً للاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، فقد استهدفت إيران من قبل أمريكا وحلفائها، ومن ثم صنفت بالدولة الداعمة للإرهاب، تمهيداً لغزوها، وبغاية تفكيك محور المقاومة الممتد من إيران إلى فلسطين عبر سورية ولبنان.

بقي أن نقول: إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بنظامها السياسي القائم شكلاً ومضموناً على تناقض حاد مع الكيان الصهيوني ومن يغرّد في سربه، ولما كانت كذلك فمن الطبيعي أن تبقى في دائرة الاستهداف كباقي دول محور المقاومة من قبل التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي الإرهابي، وهذا بدوره يبقي على الصراع محتدماً بين الطرفين، وفي الطريق نحو الانفجار.