ثقافةصحيفة البعث

كيف للكتاب الورقي أن يصمد

 

حرب باردة يكاد يشتعل فتيلها في أي لحظة، بين كل من الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني أو ما يُعرف بالـ”e book”، ورغم أن الحرب الفعلية لم تقع بشكل حاسم حتى اللحظة، إلا أن المعطيات والوقائع الحالية التي يحيا العالم على تقلباتها، خصوصا فيما يحدث من التقدم الالكتروني والتكنولوجي وبشكل يومي، يجعل من هذه الحرب قريبة الوقوع، ما يعني أن هذا الكتاب –أي الإلكتروني- يجهز ساحة حربه بما يلزم، من تحميل معظم كتب العالم وجعلها على الشابكة، إلى ممارسة الضغط المادي على معظم دور النشر بمختلف أنواعها، ووضع الكتاب أو الوسيلة المراد قراءتها بين يدي القارئ وبدقائق، أي المنافسة على الوقت، الزمن، وغيرها من أنواع الضغوط المتعلقة بالشق التجاري العالمي، الذي تدور في فلكه البضائع الورقية عموما،رغم أن واقع الحال حتى اليوم يقول لسان حاله: بأن الكتاب الورقي يبقى هو المفضل عند القراء، والأقرب لوجدانهم؛ ولكن في ظل هيمنة عولمة لا حدود لها، تأخذ كل ما يواجهها في طريقها، وتطور تكنولوجي تفني لا يهدا في هذا المضمار كما في غيره، كيف للكتاب الورقي أن يصمد في هذه المواجهة؟.

إنها معضلة حقيقية يعيشها الكتاب الورقي اليوم، بل هو تهديد وجودي يعتريه، ويكاد يجعله من مخلفات التاريخ، فالكتاب الإلكتروني، والنسخة الإلكترونية لأمهات الكتب، بالإمكان تحميلها من على الشابكة بدقائق ثم قراءتها، عوضا عن الذهاب إلى المكتبة والبحث عنها، وإما تجدها أو العكس، هذا عدا عن سعرها الذي صار مرهقا للكثير من الناس بسبب ارتفاع أسعار الورق، وشح الأخير بعد أن تكاد الأشجار التي يُصنع منها تختفي، وبما أنها صارت شائعة الاستخدام أي الكتب الإلكترونية، فهذا يعني أن بضاعة الكتاب الورقي كاسدة، ورويدا رويدا سوف تختفي من العالم، هذا الكتاب الورقي المسكين، الذي صار حاله اليوم كجزء من الديكور أو “موضة” لبرجوازية جديدة أنشأتها الحرب، كيف له أن يُحارب، ويستمر؟ ليس الكتاب فقط، بل كل نتاج إنساني له علاقة بالجانب الفكري والثقافي للعوالم بمختلف ثقافاتها، تم تدوينها على الورق، ومن ثم طباعتها لتستمر، بما فيها الجرائد، هو أمام هذا السؤال، وكنا رأينا العديد من الجرائد العريقة تقفل أبوابها لأنها لم تعد منافسا للجريدة الإلكترونية، تلك التي صارت أيضا تأتي بكبسة زر، دون الذهاب إلى الشارع لشرائها أو الجلوس في مقهى لتصفحها، أيضا من الشكليات البصرية القليلة الموجودة اليوم وكأنها فلكلور سياحي، بعد أن كانت حالة شعبية عامة، وعوض الجرائد، حل “الايباد” وعوض الكتاب، حل “اللابتوب” وعوض المضمون حلت “الويكيبديا” كمختصر مفيد لكل تلك الكتب، وأخيرا عوض المكتبة حل غوغل، وهذا الانسحاب أو التراجع حتى التلاشي، سيبقى مستمرا، حتى يصبح كل ما هو ورقي “كتاب-جريدة-مجلة..الخ” خيطا رفيعا معلقا بين الواقع والافتراضي الذي يمكن محوه بكبسة زر، وبالتالي نسف تاريخ أمم وشعوب بأكملها وإزالتها من الوجود، أو اللعب فيها بحيث يتم نسف ثقافة أمة ما، مقابل إعطائها لمن لا ثقافة واحدة تجمعهم كشعب، وهكذا يصبح الأصيل قبض الريح، ومن لا أصل له، يصير السيد.
اليوم دور النشر في العالم اجمع وليس محليا فقط، صارت تضع في حسبانها الكتاب الإلكتروني، ليكون للكتاب الذي تطبعه ورقياً نسخة إلكترونية، أيضا، يمكن شراءها عبر “النت” لتأتي لطالبها حالما يتم الدفع، فالتعويل على الربح للنسخة الورقية وحدها، يكاد يكون غير مجد، هذا إن لم يصبح عبئا فيما بعد.
هذا الحال لم تنج منه لا دار نشر كبيرة أو صحيفة ذات ميزانية ضخمة تتحمل الخسارة، والحرب التي لم تندلع بشكلها الحاسم، بدأت بعض نتائجها في الظهور، حتى قبل أن تكشف عن نفسها (إغلاق العديد من دور النشر، والعديد من الصحف اليومية، نمو غير محدود لكل من دور النشر والصحف الإلكترونية)، هذه النتائج المتقدمة، لا تبشر بأن المنافس الورقي قادر على الصمود على المدى الطويل، رغم أنه كما أسلفنا، لم يزل حتى اللحظة، له عشاقه وقراءه الذين يبنون علاقة خاصة مع الكتاب أو الصحيفة الورقية، ويجدون فيها ضالتهم، وهذا توجه فلكلوري نوعا ما، أو يكاد يمشي إلى ذلك.
محليا كان لهذه المنافسة أثرها الشديد أيضا، حيث أغلقت العديد من المكتبات ودور النشر أبوابها، ومن استمر في النشر من تلك الدور، استطاع أن ينساق مع السوق، وذلك بقيامه بطباعة الغث والسمين من الكتب وأشباهها، فالمضمون ليس مهما، طالما أن الثمن مدفوع سلفا، ما أدى لظهور الكثير من الكتب خلال الفترة التي ازدهرت فيها الحرب، ولربما خدم الإلكتروني الورقي من حيث لا يدري، فالكثير من أصحاب تلك الكتب التي تمت طباعتها، تمّ اكتشاف مواهبهم الأدبية أو الفلسفية والفكرية، في عالم “النت”، إلا أن هذه المساعدة، لن تمر دون أثر أيضا: زيادة الغربة مع الورقي، عدا عن قطع العديد من الأشجار لصناعة ورق، يحمل مضمونا- والكلام هنا عمومي- لا يشجع القارئ لاقتنائه، لأسباب عديدة، منها أن اغلب تلك الكتب التي صدرت، كانت تحت نوع أدبي واحد “الشعر”، عندما صار لدينا شعراء أكثر من القراء!، وكتّاب لا يقرؤون إلا ما يكتبوه.
هذه الحرب بين الورقي والإلكتروني مستعرة بشكل فعلي، إلا أن صدى انفجاراتها لم يصبح عاليا حد الصراخ،لكنه وخلال وقت ليس بالبعيد، سيكون غير ذلك، ما يعني أن ننتبه لخطورة الموضوع، والبدء بمشروع وطني، لحفظ أرشيفنا الفكري والثقافي والمعرفي بأنواعه، من الضياع بين الأرقام والأصفار اللامتناهية، والتي هي حقيقة من يحمل الأرشيف العالمي اليوم، ومنه أرشيفنا بطبيعة الحال، وهذا الأرشيف الافتراضي، يمكن نسفه بلحظة، ويصبح كل ما حمله في شيفرته الافتراضية، من بداية معرفتنا البشرية وحتى اليوم، هباء منثورا.
تمّام علي بركات