ثقافةصحيفة البعث

إضاءة على نص الشاعر محمد كنايسي “خــريف وعــنــاق”

“أنا

والخريف

وأنتِ”

يأتي الخريف فاصلا بين وجودين وكيانين هما الضميران: أنا وأنت، ليؤدي غرضه البلاغي والوجودي، من الفصل والقطع بينهما، واقترابهما من النهاية والتساقط منهما وبينهما تساقطا حسيا ومعنويا. ويتكرر هذا الخريف مسيطرا ومتوغلا على جسد القصيدة:

“لِنشربْ إذاً

نخبَ هذا الخريفِ”

“فلا لذّةٌ

في خريفِ الحياةِ

كلذّةِ هذا العناقِ الحزينْ”

الخريف رمز يكمن في القصيدة ويهيمن، وله تجلياته الرئيسة والمتحكمة في تشكيل الصور وفي الإشارة إلى خلجات وانفعالات الحبيبين.

ومن ذلك:

“وفي المزهريّةِ

بعض ورودٍ

ولكنّها ذابلة”

ونقرأ كلمات مشحونة بطاقتها السلبية وبدلالات فنية مختلفة:

“لوجْهِكِ أنشودةٌ

من شحوب القمرْ

لصمتِكِ

دمعُ الرخامِ الحنونْ

وبين يديكِ

تنامُ بقايا الجنونْ”

الخريف يسلب من كل المظاهر استقرارها على حالات الفرح والعطاء والزهو،  ويسلب اكتمالها الجمالي، ويشوه مظهرها. نلاحظ ذلك ببساطة من خلال رسم الصورة ونقابل الكلمات بتضاد في المعنى وتناقض كما في:

“أنشودة” وهي كلمة تستبطن الفرحة والإلقاء السعيد والتشارك غالبا، ولكن تأتي كلمة تسحب كل ذلك “شحوب القمر” القمر الذي من خصائصه الإنارة وبعث الهدوء والطمأنينة بلونه الشفاف النوراني الذي يجلب ضياء الأفق والنفس ويوحي بالأمن والاستقرار في الليل المظلم، هنا تتشوه وظيفته هذه وتتبدل ميزاته ومنافعها أو دلالاته ليزيد الليل بلونه المكبوت الواهن ظلاما وهيمنة وفقدا لأي أمل وضوء.

لكن عند التمعن في خلجات الشاعر/الراوي/المحب يتضح للمتلقي-عبر ما مضى من تعابير وأوصاف- أن هذا الخريف يعكس انصياعا وقبولا من الحبيبة/الأنثى، بل وعبر الكلمات ترتسم حقيقة هذا الخريف الحزين، وأن للأنثى دورا في هيمنة هذا الخريف والتعجيل به، ونقرأ تصريحا في ذلك:

“هذا الخريفِ

الذي تعشقينْ”

إن الشاعر الراوي المحب مدرك لكل ما مضى وبما ارتضته لهما ولعلاقتهما حبيبته. فهو يعبر ملتقطا الصور السريعة والمعبرة دلالة على توتره وامتلاء نفسه بالأفكار والمشاعر التي لا تصل في مستواها إلى التمرد والرفض، ولا تتأبى أو تأنف من الاستسلام، بل هو مستسلم، ومنصاع مع آلامه:

“لِنشربْ إذاً

نخبَ هذا الخريفِ

الذي تعشقينْ

ونرقصْ

بلا تعبٍ

رغم أنفِ السنينْ”

يخاطب حبيبته، بفعلي أمر “لِنشربْ ونرقصْ” يصدران بلا تردد أو محاولة تساؤل واستعطاف أو تأنيب أو مراجعة أو محاورة.

وتأخذ “إذاً” كل المشهد إلى أن لا خلاص من هذا الخريف حقيقيا جاء أو مصطنعا، جاء طبيعيا في أوانه أم استُدعيَ استدعاء وفُرِض فرضاً:

“ونرقصْ

بلا تعبٍ

رغم أنفِ السنينْ”

الاستسلام هو الانهزامية الدرامية التي انقاد لها الشاعر الراوي المحب، وارتضته لهما الحبيبة، وبذلك تخيم هذه الروح عليهما، وهو لا يقاوم ولا يكتفي بالرضا بل هو التقى بحبيبته ليحتفيا بهذا الشرخ المتصدع بينهما، بين أنا وحبيبته التي يخاطبها وقد رسم لها مشهد الحزن العاطفي والفني في صور متنقلة، ليختمها بأفجع الصور، وفي احتفائية مفرطة باستقبال العذاب العاطفي والتساقط الحياتي:

“فلا لذّةٌ

في خريفِ الحياةِ

كلذّةِ هذا العناقِ الحزينْ”

هي الكأس الأخيرة اللذيذة، وهي كأس مسكرة تحمل ثمالتها، وتسري في العروق، والحبيبان يرقصان بلا تعب، ولكن اللذة لن تدوم ففيها سمٌّ سيشل ما بينهما من عناق وسيؤدي بهما إلى التساقط النهائي والانفصال التام المرتقب.

محمد صالح محمد