دراساتصحيفة البعث

سورية تعيد التوازن للمعهد الألماني للقضايا الدولية والأمنية

د.مازن المغربي
تحتل مراكز الأبحاث والدراسات السياسية موقعاً متميزاً ضمن مؤسسات دول ما يسمى بالديمقراطيات البرلمانية حيث تساهم هذه المراكز في صياغة السردية السياسية العامة المقبولة من حلقات الطغمة المالية المتحكمة في مجتمعات البلدان الرأسمالية. ويعتبر المعهد الألماني للقضايا الدولية والأمنية من أبرز مراكز الدراسات السياسية في جمهورية ألمانيا الاتحادية، بل أنه يصنف ضمن قائمة أهم خزانات الفكر في العالم.
تم تأسيس المعهد في مدينة ميونيخ عام 1962، وفي عام 1965 صوت البرلمان الألماني بالإجماع على قرار نص على مشاركة الحكومة الألمانية في إدارة نشاطات المركز. بعد ذلك انتقل المقر الرئيسي للمركز عام 2001 إلى مدينة برلين.
تتمثل مهمة المركز في تقديم استشارات للحكومة الألمانية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والقضايا الأمنية. ويتم تمويل المركز -بشكل رئيسي- من قبل المستشارية الألمانية التي خصصت له عام 2016 ميزانية وصلت إلى 12.3 مليون يورو، كما حصل المركز في تلك السنة على تمويل إضافي من جهات أخرى تجاوز المليونين ونصف مليون يورو. كما يقوم المركز بإعداد دراسات يتم تمويلها من قبل طرف ثالث. والمهم فيما يتعلق بعملية التمويل أن الباحثين والعاملين في المركز هم في نهاية الأمر موظفون لدى المستشارية، وهذا يمنحهم مزايا مالية بالإضافة إلى الكثير من الامتيازات الأخرى حيث تتسابق وسائل الإعلام على استضافة الباحثين في المركز وهو أمر يمثل مصدر دخل إضافي.
يشرف على أعمال المركز هيئة تضم ثلاثة منابر وفق التالي: منبر يمثل البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) يضم ممثلاً واحداً عن كل وواحد من الأحزاب الكبرى. ومنبر يمثل الحكومة يضم سبعة أعضاء على الأقل تعينهم الحكومة، ومنبر خاص يضم على الأقل سبعة من الوجوه البارزة من أكاديميين ورجال أعمال ومن العاملين في الشأن العام، يضاف إليهم رئيس المركز، ونائبان للرئيس.
وتقسم نشاطات البحث إلى عدة مسارات يعمل فيها قرابة ستين باحثاً، وهي شؤون الاتحاد الأوروبي، الأمن الدولي ، الأمريكيتان ، وشرق أوروبا، وأوراسيا ، والشرق الأوسط ، أفريقيا وآسيا، والقضايا الشاملة.
كانت هذه المقدمة ضرورية لكي ندرك أننا أمام مؤسسة بحثية كبرى لها علاقات وثيقة مع هيئات دولية وتعمل وفق ضوابط صارمة.

سورية في قلب اهتمام المركز
كانت سورية بعيدة عن اهتمامات المركز؛ ففي عام 2010 -على سبيل المثال- لم ينشر المركز أي دراسة تتعلق بها، لكن الوضع تغير في العام التالي حيث نشر المركز ثلاث دراسات حول الشأن السوري، وارتفع عدد الدراسات إلى ثماني عام 2012، ثم إلى ثلاث عشرة عام 2013، وانخفض إلى اثني عشر بحثاً عام 2014. أما فيما يتعلق بنشاط المركز عام 2015 فنلاحظ ظاهرة غريبة حيث بلغ عدد الأبحاث المتعلقة بسورية أربعة وستيناً من مجموع مئة واثنين وعشرين بحثاً نشرها المركز. أي أن الموضوع السوري استهلك أكثر من نصف جهود الباحثين بمعدل يزيد عن بحث كل أسبوع على مدى العام . وفي عام 2016 تم تخصيص سورية بستة وأربعين بحثاً من أصل مئة وستة. بعدها تراجع اهتمام المركز بالشأن السوري نسبياً، حيث لم يتم نشر سوى ثمانية أبحاث حول بلادنا في عامي 2017 و2018. ما سبق يتعلق بالأعمال المنشورة المتاحة للعموم، لكن يمارس المركز العديد من النشاطات، وينظم دورات ولقاءات وندوات وورشات عمل لا يمكن الوصول إليها إلا وفق ضوابط محددة.
كما شارك المركز ، إلى جانب معهد السلام في الولايات المتحدة بإعداد مشروع
(اليوم التالي) ويقصد به اليوم الذي يتلو إسقاط الدولة السورية حيث تم اختيار مجموعة من المثقفين السوريين ووفرت لهم فرصة لمناقشة الأفكار المتعلقة بأوضاع سورية تمت صياغتها في مشروع موثق يمكن الرجوع إليه في موقع المركز. صحيح أن تطور الأوضاع الميدانية قطع الطريق على تنفيذ هذا المشروع لكن هذا لم يعنِ تراجع اهتمام الحكومة الألمانية أو مركز الأبحاث هذا بالشأن السوري. فقبل أيام قليلة نشر المركز دراسة حملت عنوان تدخل عسكري ألماني في سورية، الهدف السياسي، و الجانب العملي، والجانب القانوني ، والتداعيات بقلم موريل آسيبورغ وماركوس كايم. جاء في مقدمته استرجاع لموضوع النقاش الذي دار بين الوزراء والنواب في شهر أيلول الماضي حول تدخل عسكري ألماني في سورية بهدف منع استعادة الحكومة السورية محافظة إدلب. ورأى الكاتبان أن قضية التدخل العسكري الألماني ستطرح حتماً عاجلاً أم آجلاً وعلى هذا الأساس قاما بإعداد دراسة حول مختلف جوانب الموضوع.

التدخل العسكري
رأى الكاتبان أن مناقشة تدخل عسكري ألماني في سورية تلبية لطلب من الولايات المتحدة يجب أن تغطي الجوانب القانونية والسياسية والعسكرية. وأشارا إلى أن أي تدخل عسكري ألماني يجب أن يراعي ثلاثة شروط وفق دستور ألمانيا، أولها وجود تفويض من مجلس الأمن الدولي استناداً إلى المادة السابعة من شرعية الأمم المتحدة، وأن يتم ذلك ضمن إطار عمل مشترك بالتفاهم مع الناتو ومع الاتحاد الأوروبي، والشرط الرابع هو موافقة البرلمان الاتحاد، وهذا أمر غير وارد ضمن الظروف الحالية نتيجة للموقف الروسي، لكن هذا -وفق وجهة نظر معدي الدراسة- لا يمنع مناقشة فكرة تدخل عسكري ألماني مباشر بهدف تحقيق أربعة أهداف محتملة، هي حماية المدنيين، ومنع استخدام سلاح محظور، والحث على مفاوضات سياسية، وإظهار تضامن عملي مع الحلفاء. ففيما يخص قضية حماية المدنيين رأى الباحثان أن التوافق الروسي التركي حول منطقة خفض التصعيد لا يحقق هذا الهدف الذي يتطلب إنزال قوات على الأرض في إطار تفاهم دولي على إقامة منطقة آمنة بطول ستين كيلومتراً وعرض خمسين كيلومتراً، وهذا يغطي نصف مساحة محافظة إدلب الأمر الذي يقتضي نشر قوات يراوح عددها بين أربعين وخمسين ألفاً مزودة بكل المعدات الضرورية بالإضافة إلى فرض منطقة حظر جوي. وخلص الباحثان إلى أنه لا يوجد عاصمة غربية مستعدة لمثل هذا الإجراء.
وفيما يتعلق بالهدف الثاني، أي منع وقوع هجوم كيميائي ذكر الكاتبان الضربات التي وجهت إلى مواقع حكومية سورية لكن دون أن تؤدي إلى تحقيق الهدف المعلن. أما الهدف الثالث المحتمل فهو الحث على الدخول في مفاوضات سياسية وهو أمر يقتضي، وفق رأي الكاتبين، إضعاف قدرات الدولة السورية وحلفائها بحيث تعجز عن شن هجوم شامل وهذا يخالف الأعراف الدولية عدا عن أنه يحمل مخاطر مجابهة مباشرة مع روسيا وتصعيد الوضع الميداني من جديد. أما فيما يتعلق بالهدف المحتمل الرابع والأخير وهو إظهار التضامن مع الحلفاء فرأى الكاتبان أن الأمور لا يجب أن تصل إلى حد مخالفة القانون الدولي والدستور الألماني وبالتالي تكون الآفاق مسدودة في وجه تدخل عسكري ألماني مباشر.
تبدو هذه الدراسة كما لو كانت عملية تمهيد لاستبعاد فكرة تدخل عسكري ألماني مباشر في إدلب وهكذا يكون المركز قد قام بالدور المطلوب منه في إضفاء طابع مؤسساتي على توجهات السياسة الخارجية الألمانية. ويظل أهم ما في الأمر ضرورة متابعة ما يصدر عن هذا المركز، وعن غيره من مراكز الدراسات حول سورية فخلال سنوات الأزمة نشر المركز أكثر من مئة وستين دراسة تناولت مختلف جوانب الأوضاع السورية وهذا يمثل مصدر خصب للمعلومات ويوفر مؤشراً حول توجهات الحكومة الألمانية العازمة بإصرار على لعب دور أكبر على المسرح الدولي.