تحقيقاتصحيفة البعث

 لم تنل من الدعم إلا الكلام الكثير المشروعات الصغيرة.. انكماش في الآمال والطموحات.. والإجراءات الإدارية معقدة لجهة التمويل والنظام الضريبي؟

منذ حوالي عامين، شكّلت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لجنة لتفعيل عمل هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، والتي لم تأخذ بمختلف أنواعها حقها من الدعم الحكومي الفعلي خلال السنوات الماضية من عمرها، بالرغم من “التطبيل والتزمير” لها في الإعلام، فكان طبيعياً أن تنكمش أحلام الشباب مع مشاريعهم إلى حد خرم الإبرة، وتتلاشى طموحاتهم أمام “كتر الحكي” الذي لا يغني ولا يسمن من جوع!.

نتذكر أن طالبي العمل، وخاصة الخريجين في الجامعات، تفاءلوا كثيراً عندما علموا بخبر تشكيل اللجنة المذكورة، خاصة أنها ضمت عدداً من “الخبراء والمعنيين في هذا المجال من القطاع العام، ومن المنظمات الأهلية الناشطة فيه”، وخُيل لهم أن هؤلاء “سيشيلون الزير من البير”، لكن للأسف كان الكلام كبيراً، والفعل قليلاً!!.

إن ما يحصل من إهمال للمشروعات الصغيرة أمر مستغرب بلا شك، لأن المأمول كان عكس ذلك، خاصة عندما نعلم أن المشروعات متناهية الصغر والصغيرة لها قدرة كبيرة “على استيعاب المزيد من العمالة كونها لا تتطلب استثمارات مالية كبيرة، حيث إنها تتصف بانخفاض مستويات معامل رأس المال/العمل، وهو ما يلائم ظروف دولة نامية كسورية، على النقيض من المشروعات الكبيرة التي تتطلب استثمارات رأسمالية باهظة”.

تساؤلات ودعوات!

يتساءل أحمد سلوم، طالب دراسات عليا (تجارة واقتصاد)، كيف تتم عرقلة نمو المشروعات الصغيرة، وهي التي تعمل على توسيع الحركة الاقتصادية، لتشمل مناطق كثيرة، كما في الريف المهمش، وقال: نحن الآن بأمس الحاجة لبيئة تحفز أصحاب المشروعات، وتحقيق نمو كبير على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، خاصة في ظل ما نحن فيه من ظروف صعبة الآن.

ودعا زميله فادي أحمد إلى ضرورة اعتماد صيغ قانونية مرنة، وتفعيل الأنظمة المحفزة على الاستثمار في هذه المشروعات، متسائلاً: ما الذي يمنع ذلك طالما سينعكس بالنتيجة على تنمية البلد؟!.

مشكلات ومقترحات

يؤكد الدكتور رامي علي زيدان، أستاذ الاقتصاد في جامعة الأندلس الخاصة، على أن المشروعات متناهية الصغر والصغيرة أحد الحلول الفعالة لتشغيل العمالة، والحد من البطالة، ورفد السوق المحلية بالإنتاج، وتحقيق التنمية الإقليمية، والحد من الهجرة الداخلية، وبخصوص أهم الصعوبات التي تعترض نجاحها بيّن أن أهم المشكلات التي تواجه المشروعات متناهية الصغر في سورية تتمثّل بغياب التدريب، وطرائق الإدارة الحديثة، ونقص القدرات الإدارية، موضحاً أن سورية تعاني من نقص واضح في التدريب داخل المشروعات متناهية الصغر، بالإضافة إلى غياب المؤسسات التعليمية المختصة بتدريب وتأهيل عمال هذه المشروعات، ما يقود في المحصلة بشكل أو بآخر إلى تدني السوية الإنتاجية والتسويقية، ومن جهة أخرى فإن الطابع العائلي الذي تقوم عليه الكثير من هذه المشروعات في سورية يترافق مع مجموعة من المواقف السلوكية ذات الطابع التقليدي المحافظ، والتي تحد كثيراً من آفاق تطويرها التنظيمي والإداري والإنتاجي.

غياب دراسات الجدوى!

وبيّن الدكتور زيدان أن غياب دراسات الجدوى الاقتصادية يعتبر أيضاً إحدى المشكلات والصعوبات التي تقف حجر عثرة أمام المشروعات الصغيرة، حيث لايزال رب العمل في سورية بشكل عام يهمل مرحلة ما قبل الاستثمار، والتي تنطوي على دراسة الجدوى الاقتصادية، بالرغم من أهميتها، حيث يُنفق مئات الألوف، وأحياناً الملايين على الأعمال الإنشائية، وشراء المعدات والتجهيزات، ويبخل بالجزء اليسير منها (أقل من 1%) على هذه الدراسة، لا بل إن العديد من المشروعات التي تقوم بهذه المرحلة تكون فقط لمجرد استكمال شكلي لملف التراخيص!!.

وتساءل الدكتور زيدان: إلى متى تبقى الإجراءات الإدارية معقدة أمام أصحاب المشروعات، لجهة الائتمان، والتمويل، والنظام الضريبي، ومشكلة التسويق، والتحمّل الكامل لمسؤولية العمل، إضافة إلى تغييبها عن المشاركة في صنع القرار الاقتصادي؟!.

جهة مركزية مختصة

وبخصوص ما يجب أن تقوم به الجهات المعنية لتطوير وإنجاح المشروعات متناهية الصغر، أكد الدكتور زيدان أن على المؤسسات الاقتصادية الكبرى في سورية كالمصارف الرئيسة ذات الصلة بالصناعة، ووزارات الاقتصاد، والمالية، والصناعة، والمكتب المركزي للإحصاء، أن تعمل على توصيف المشروعات الاقتصادية السورية، (كل جهة حسب وجهة نظرها وما تراه مناسباً لها)، من حيث كونها مشروعات متناهية الصغر وصغيرة ومتوسطة وكبيرة.

واقترح إنشاء جهة مركزية مختصة بشؤون هذه المشروعات، بما يماثل العديد من دول العالم، بحيث ترعى شؤونها وتهتم بتطويرها ومتابعة أوضاعها العامة، وتشجيع إقامة هذه المشروعات في الريف، والمحافظات، والمناطق التي تتأخر اقتصادياً عن غيرها، وذلك بتقديم مزايا وتسهيلات أكبر لها، والتمييز بين المناطق التي تقام عليها هذه المشروعات فيما إذا كانت ذات أعداد سكانية منخفضة أو عالية، أي التمييز حسب التمركز السكاني.

تسهيلات مالية ونقدية وائتمانية

وطالب أستاذ الاقتصاد بمنح المشروعات حديثة الولادة فترة إعفاء ضريبي لا تقل عن (3) سنوات، بالإضافة إلى تسهيلات مالية ونقدية وائتمانية أخرى، وذلك بهدف تخفيف الأعباء والالتزامات المالية الكثيرة التي تواجهها لدى انطلاقها، وهذا من شأنه– حسب رأيه- أن يساعدها على الاستمرار والبقاء في السوق، وبالتالي تزداد فعاليتها في تشغيل الأيدي العاملة.

وأكد الدكتور زيدان على ضرورة أن تكون السياسة الاقتصادية الحكومية غير منحازة تجاه المشروعات الكبيرة، وأن تعمل الدولة على إنشاء مؤسسات مالية متخصصة، حكومية كانت أم خاصة، بتقديم القروض للمشروعات الصغيرة، وخاصة القروض قصيرة الأجل، وإنشاء هيئات متخصصة بتقديم الاستشارات والدراسات الإدارية والمالية والاقتصادية لهذه المشروعات، والاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، وذلك من قبيل الاسترشاد، وبما يتفق مع واقعنا، وإمكانية الإفادة منها في التطبيق، كتجربة الهند، واليابان، وايطاليا.

وأشار إلى أهمية تقديم مزايا وتسهيلات أكبر للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة التي تساهم في زيادة التدفقات النقدية من العملات الأجنبية، ودعم هيئة تنمية المشروعات الصغيرة، والهيئات والمؤسسات ذات العلاقة بعمل هذه المشروعات، وتشجيع إقامة حاضنات الأعمال، والحاضنات التكنولوجية.

موقعها الاستراتيجي

تشير الإحصائيات التي ذكرها الدكتور زيدان إلى “أن نسبة مساهمة المشروعات متناهية الصغر والصغيرة من إجمالي المشاريع في القطاع الخاص في سورية لم تتدن خلال الفترة المدروسة عن (94.19%)، وذلك في عام 2010، كما أن نسبة مساهمتها في التشغيل لم تتدن عن (80.11%) عام 1999، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على موقعها الاستراتيجي في التشغيل، والحد من البطالة، وذلك بالرغم من بقائها خارج الاهتمامات /الجدية/ الرسمية للجهات المعنية”.

بالطبع هذا أمر محزن في ظل حاجتنا الماسة لهكذا مشروعات يعوّل عليها كثيراً في تنمية الاقتصاد وإنعاشه.

بالمختصر، آن الأوان لنستثمر بشكل صحيح بالمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، ولعل الخطوة الأولى لتحقيق ذلك تكمن في إيجاد أرضية سليمة للانطلاق الناجح عبر إيجاد “نظام تشريعي مرن، وآلية مصرفية تمويلية وإدارية متكاملة”، بمعنى آخر العلة واضحة “نقص التمويل، وضعف الخبرة والإدارة”، وأية محاولة لإنعاشها يجب أن تراعي هذا الجانب، وإلا ستبقى الأمور تراوح في المكان، ونخسر المزيد من فرص العمل التي ستؤمنها تلك المشروعات على اختلاف أشكالها، خاصة أن طالبي فرص العمل في تزايد مستمر، والأخطر أن ذلك يقابله انكماش واضح في فرص العمل!.

غسان فطوم

ghassanfattoum@gmail.com