الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من حلب (2)

 

د. نضال الصالح
أولاد الحرام، أو أبناء السوابق في السرقة، والسطو، وانتهاك الحرمات، وتعاطي المخدرات والاتجار بها، و… كما كان حيّ “الجلّوم” كلّه يعرف، ثمّ أبناء ما قالوا إنّه “ثورة”، ثمّ أولاد الحرام الآخرون الذين أكرمهم الوطن، فكافؤوه بالعقوق والجحود والنكران، وأولئك الذين زعموا أنفسهم مثقفين، فباركوا ما سمّوه “ثورة” وصفّقوا لها وللدم والموت والدمار، ومنهم الذين آثروا الصمت والاختباء في جحورهم ريثما ينقشع غبار الذميمة الحرب، أو الذين أدمنوا إمساك العصا من المنتصف.
أمّ ندى تستعيد سيرَ أولاد الحرام كما تعرف في الجلّوم، وفايز يستعيد سيرَ الآخرين من أمثالهم كما عرف عن قرب طوال دراسته في الجامعة، وفي غير مكان جمعه بهم في هذا اللقاء الثقافي أو ذاك، ولاسيما أنّه كان يلهث وراء معظم اللقاءات مهما كلّفه من مشقّة، حتى قيل إنّ هوساً أصابه أوّل شبابه، هوس الشغف بالثقافة، وكلّما استعاد سيرة واحد من أولاد الحرام أولئك تمنّى لو تبلغه يداه، فيـ…، كما كان يردّد، أنّ الخائن لا يليق به سوى ذلك.
وبين ما كان يتتابع من صور في ذاكرة أمّ ندى ومثيلها في ذاكرة فايز كانت ندى تغيب عن الوعي قليلاً، ثم تصحو قليلاً، وفي كلّ صحو كانت عيناها تمضيان إلى وجه فايز، تستطلعان أسرار ذلك الحزن الغائم في عينيه كما قرأت أوّل مرة تراه فيها. وبينهما، الغياب والصحو، كان فايز لا يتردّد في محاولة قراءة ملامح وجهها الشاحب مظهراً، المترف بحُسن لا يشبهه حُسن جوهراً، ولاسيما عيناها اللتان ما إنْ كانت عيناه تستضيئان بسحرهما حتى يستعيد قول الشاعر: “ليتَ الذي خلقَ العيون السودا/خلقَ القلوبَ الخافقاتِ حديدا”.
سألت أم ندى على نحو لم يتوقّع أمره أحد: “أنت متزوج يا ابني؟”، فضجّت ابتسامة مضيئة في عيني فايز وهو يجيب: “متزوّج يا خالة؟ مَن سترضى بي وأنا لا أعرف، وغيري لا يعرف، متى سينتهي هذا الجراد”، ثمّ تابع بعد أن استضاء بعيني ندى من جديد: “اليوم هنا، في حاجز الساحة، ومن قبل في حمص، ومن قبل حمص الرقة، ومن قبل الرقة سهل الغاب، وغداً يعلم الله وحده أين سأكون”.
ست سنوات مضت على فايز منذ أول يوم لالتحاقه بالجيش لأداء خدمة العلم، وخلال تلك السنوات الست تعرّض لغير إصابة في غير مكان من جسده، وفور استشفائه كان يعود إلى جبهات القتال، ويردّد لنفسه: “كلّ شيء يهون كرمى لعينيه”، وكان يقصد علم الوطن.
لم يكن ثمة شيء يثير غضب فايز مثل تلك الراية ذات النجوم الثلاث بلون الدم. كان، ما إن تقع عيناه عليها، حتى يستعيد صورة ذلك اليوم، في بلدته في درعا، عندما رآها أول مرة مرفوعة بقبضتي أحد رجال التهريب المعروفين في البلدة، ثمّ نفسه وهو يهجم عليه، ويرميها أرضاً، ثمّ يدوسها بقدميه، وهو يقول… (يتبع).