دراساتصحيفة البعث

العولمة ومجزرة الجر

طارق دربو

المجزرة هي ما يقترفه الآخرون من خطف، وقتل، وحروب مسبقة، وتكون المجزرة أكبر عندما نقوم بجر أنفسنا نحو هذا العالم الذي يقدم لنا كل شيء ليدمر الهوية بكافة أشكالها السياسية، والمجتمعية، والاقتصادية، وحتى الثقافية التي هي أساس نظام الشعوب، هذا العالم الذي يفعل كل شيء ليقولبنا بعالميته الخلابة التي لا تعلّمنا سوى النسيان، نسيان من نحن ومن نكون، أما العولمة، وكأنني أقول، هو مصطلح خارق بعيد لا يستطيع أحد فهمه، صحيح أننا نجد أن الكل متعولم، لكن لا أحد يعرف أن ما يقوم به هو جزء من عالم يناقض مجتمعه.

إذاً العولمة هي العملية التي يتم فيها تحويل الظواهر المحلية إلى مظاهر عالمية، فالمصطلح في اللغة الانكليزية (غلوباليزيشن) هو تعميم الشيء، وتوسيع دائرته ليشمل الكل، أي “جعل العالم عالماً واحداًً”، هناك اجتهادات ترمي إلى وصف هذه الظاهرة بمحاولة فرض الثقافة الأمريكية وهيمنتها على شعوب العالم، وهناك أيضاً اجتهادات تقول إن العولمة هي تلك الهيمنة الاقتصادية للدول الغنية على الدول الأكثر فقراً، والتي تقوم بنشر مبادئ النظام الاقتصادي الرأسمالي، وفرضه على الشعوب الأقل تقدماً.

قد تكون هذه الظاهرة لجذب المجتمعات الإنسانية ذات الطابع الانفتاحي على ما حولها من مجتمعات وثقافات مختلفة، فهي، أي العولمة، تؤثر بشكل أو بآخر على شعوب العالم كافة، وفي كافة المجالات، وعلى كافة المستويات، ففي مجال الصناعة تم فتح أسواق عالمية تتيح لكافة الشعوب الوصول للمنتجات والسلع بمختلف أنواعها، وفي مجال الاقتصاد والمال تم إيجاد أسواق عالمية مشتركة تساعد على حرية تبادل السلع ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى تسهيلات الحصول على القروض المالية الخارجية.

أين مجزرة الجر؟!

يتسنى لنا القول: إن أول مجريات العولمة على الواقع العربي كان من خلال البعثات التبشيرية، أو تكريس ثقافة المحتل للحفاظ على التبعية حتى بعد خروج الاستعمار للسيطرة على الموارد التي تحتاجها الصناعة الأوروبية، بدأ التاريخ يعيد نفسه، حيث نجد أن السياسة الأمريكية تلعب دوراً للسيطرة على العالم تحت شعار الإصلاح ونشر الديمقراطية كتعبيرات سياسية للعولمة، فكل الإجراءات التي تقوم بها هي لطمس الهوية الشعبية في إطار عملية التسويق السياسي، وهذا يؤدي إلى المزيد من الانغلاق، والدخول في عالم الظلامية والاستبداد.

ولكن الطرف الأمريكي لم يستطع الحصول على كامل مراده، فدخل بشكل أكبر على خط ذريعة الإرهاب العابر للقارات، خاصة بعد ما تعرّضت له واشنطن في عام 2001، والذي أرسى إلى اليوم حملة مكافحة الإرهاب، وجعل العالم تحت حالة طوارئ دولية، استطاعت من خلاله أمريكا الدخول إلى الدول تحت شعار حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، فكانت التجربة العراقية، والتجربة الليبية، ثم حالة “الربيع العربي”، والآن بفرض “إسرائيل” كجزء من حل مشاكل المنطقة، وليس كمشكلة، فكان الجر بانقسام الأولويات العربية بمواجهة هذه التحديات كلها.

بدأ الجر من خلال التعمد بتهديد الهوية الثقافية الذاتية لكل أمة على حدة، وهذا ما وصفه المحللون والخبراء بالهيمنة الثقافية، أي سيطرة القوي على الضعيف، وسيطرة الدول الأكثر قوة على الدول النامية، بالإضافة إلى هيمنة الشركات متعددة الجنسية على حركة التجارة، بل والاقتصاد بوجه عام.

وبما أن الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، لابد أن تمزيقها أصبح شيئاً واضحاً في المجتمعات العربية كالتهرب من المسؤوليات، وتكاثر هموم العصر، وتغيير عاداتها، وحتى قيمها من خلال ما يسمى بثورة الاتصالات التي حتى الآن لا يوجد شيء يستطيع أن يوقفها ويحدها للنيل من أجيال متعاقبة، لنجد فجوة كبيرة بين الأجيال، وهذا ما أدى إلى عدم القدرة على توجيه الدفة نحو الخيارات الصحيحة، والتعارض في كل شيء، وحتى قضية الشباب أخذت نصيبها، خاصة أصحاب المهن، فقد تم دعمهم أو تشجيعهم على الهجرة إما قسراً أو إقناعاً، ولم تقتصر عملية الجر على الشباب والأسرة، بل على القانون، والاقتصاد، وكل مكنونات الدولة، من هنا يبدو أننا نعيش عدم المنافسة بالرغم من توافر الإمكانات المادية.

والمجزرة الكبيرة في العولمة ربط (جر) العملة بعملة أقوى منها، كارتفاع قيمة العملات الأجنبية للدول الأكثر تقدماً في مقابل عملات الدول النامية، وهذا ما أدى إلى التعامل بالعملات الأجنبية داخل هذه البلدان، من هنا تتضاعف المخاطر التي تنجم عن العولمة من خلال ذلك التغلغل الأمريكي في المنظمات الدولية، والشركات العابرة للقارات التي تتعاظم من خلالها إمكانية التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتي ساهمت في تغيير مفهوم السيادة إلى مفهوم الرخاوة والإحاطة بدول الجنوب عامة، والعربية بشكل خاص.

لا أحد يستطيع أن ينكر أننا نحن السوريين تعرّضنا للكثير من أشكال العولمة التي كان من أهم مظاهرها علينا على مدار ثماني سنوات، الإتجار بالإنسان السوري، والتهويد الإعلامي، والتهديد العسكري، ومحاولة طمس الهوية الثقافية والإرث الحضاري، والمحاصرة الاقتصادية، وازدواجية المعايير الدولية في قضية حقوق الإنسان، وتهديد الهوية الذاتية والخصوصية الثقافية، نعم إنها العولمة ومجروراتها التي لا نستطيع أن ننكر أنها أصبحت من أساسيات مجتمعنا الإعلامي والتكنولوجي.

والأخطر من هذا كله أن كل الاجتماعات التي تتحدث عن العولمة لا تتحدث عن كيفية الاستفادة من الموارد البشرية في البلدان التي يمكنها أن تنهض باقتصاد يستطيع التنافس مع الدول المتقدمة، بقدر ما يحقق إضافة جديدة للتطور التكنولوجي، يبدو أننا نتحضر لمزيد من العولمة بحوكمة اقتصادية واجتماعية لا نقدر فيها التحرك، وهذا سيؤثر بشكل أو بآخر على بيئتنا الثقافية والاجتماعية، إذاً من مصطلح العولمة إلى الحوكمة والجر الجديد بمجازر جديدة لا نعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي!.