دراساتصحيفة البعث

الاقتصاد وخطط الأمن القومي

باسل الشيخ محمد

علقت وكالة “يونهاب” الكورية الديمقراطية على خبر تجميد كوريا لبرنامجها النووي بالقول إن “تعليق التجارب النووية يعدّ أمراً مهماً لنزع السلاح العالمي، وأن كوريا الديمقراطية ستنضمّ إلى الجهود الدولية لوقف التجارب النووية بالكامل”. تتالت التعليقات بعد ذلك لتشيد بهذه الخطوة باعتبارها تسير على طريق نزع السلاح النووي في العالم كما هو أمل الكثيرين، بل إن ترامب نفسه أعرب عن سروره بهذا القرار وأعلن أنه يودّ لو يعقد قمة مع الزعيم الكوري الديمقراطي.

هل كان شعور ترامب نابعاً من طموح ما في تفكيره لجعل العالم يعيش بسلام من دون السلاح النووي؟.

لطالما كان الشأن النووي هو الهاجس الأكبر لدى صانع القرار الأمريكي منذ منتصف القرن الماضي، إذ أن الإدارات الأمريكية تعتبر أن سياستي الردع والاحتواء متطلبات أساسية في الحفاظ على أمنها القومي. يفسّر هذا التوسع الجغرافي لحلف الناتو في محيط جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، إذ دخلت المجر وبولونيا والتشيك الحلف بعد العام 1999، وفي المحيط الجغرافي نفسه دخلت بلغاريا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وأستونيا بعد العام 2004، آخر دول ذلك المحيط الجغرافي كانت ألبانيا وكرواتيا، فهما الدولتان الأحدث في حلف الناتو بعد انضمامهما إليه بعد العام 2009.

جرى هذا التوسع في الفترات الزمنية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، بمعنى أن هاجس الهجوم النووي ضد الولايات المتحدة لم يكن وارداً بأي حال من الناحية التكتيكية القريبة، وعلاوة على ذلك فقد كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد وقعتا في الحادي والثلاثين من تموز 1991 اتفاقية ستارت 1 التي تقضي بالحدّ من انتشار الأسلحة النووية، انتهت هذه المعاهدة في الخامس من كانون الثاني عام 2009 واستُبدلت بمعاهدة ستارت الجديدة لتدخل حيّز التنفيذ في السادس والعشرين من كانون الثاني 2011.

علام توسّع الناتو إذاً..؟ وهل أصبح العالم أكثر أمناً بعد تلك المعاهدتين؟.

يأتي الجواب من مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست في الثالث عشر من كانون الثاني لهذا العام. أوردت الصحيفة مقالاً جاء فيه أن الولايات المتحدة بصدد إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة النووية لتجاري “خصومها”، ومن بين تلك الأنواع الجديدة من الأسلحة ما يُسمّى “القنابل النووية محدودة الشدة”، التي يمكن تركيبها على صواريخ “ترايدنت” وإطلاقها من الغواصات، وهذه القنابل قادرة على إلحاق ضرر أكبر مما أحدثته ضربة هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين أواخر الحرب العالمية الثانية.

كلفة هذا المشروع الذي جاء على شكل مسودة قرار تبلغ 1.2 تريليون دولار، تنفق على مدى السنوات الثلاثين المقبلة، تغطي هذه الكلفة تحديث الطائرات والسفن ومستودعات الصواريخ التي عفا عليها الزمن في الترسانة النووية الأمريكية لتصبح أكبر بخمسين في المائة مما هي عليه في الوقت الراهن.

ولعلّ هذا الرقم الضخم الذي من المقرر إنفاقه في السباق النووي –الذي لم يتوقف- يفسّر أحد دوافع اجترار الولايات المتحدة المال من حلفائها، هذا إلى جانب هدف آخر هو إضعاف “الآخرين” اقتصادياً سواء كان القصد أن تكون للولايات المتحدة اليد العليا عليهم أو إن كان بناء مقدرات نووية أمريكية رادعة.

وبمناسبة الحديث عن الأمن العالمي لا بد من الإشارة إلى أن هذا المفهوم يتقاطع مع مفهوم الأمن الإنساني الذي يشير بدوره إلى أهمية تلبية الحاجات الإنسانية، إضافة إلى درء المخاطر عن بني البشر. وعليه يغدو السؤال: “هل أصبح العالم أكثر أمناً في ظل الحرب التجارية الراهنة”؟.

بتقريب صورتي السباق النووي غير المعلن إلى جانب صورة الحروب الاقتصادية، لا يبدو أن العالم سيصبح أكثر أمناً، بل على العكس، سيصبح من تعتبرهم الولايات المتحدة في مواجهة ترسانة نووية أضخم خارج حدودهم من جهة، ومصاعب اقتصادية ناجمة عن التجاذبات التجارية من جهة أخرى، وهذا بفرض أن الحرب التجارية الأمريكية ستأخذ مداها ولن تتعرض لأي ردود، سواء من تحالفات تجارية مضادة أو إن لم تنقلب تلك العقوبات سلباً على أمريكا.

أغامر بالقول إن الحرب الباردة تطوّرت لتصبح سباق تسلح وقتالاً بالوكالة وضغطاً اقتصادياً، وهنا يبدو المشهد معقداً في ظل عدم وجود نتائج كبرى تمخضت عن الضغط الاقتصادي حتى الآن، كما أن العالم لما يشهد بعد حدوث تحولات على صعيد التحالفات العالمية، في الوقت الراهن يمكننا التركيز على تصورات ثلاثة:

– التصور الأول: هو أن تترجم الحروب الاقتصادية إلى تحالفات دولية ومن ثم عسكرية.

– التصور الثاني: هو أن تتحوّل التحالفات الاقتصادية إلى تحالفات عسكرية.

– التصور الثالث: هو تفكك تحالفات اقتصادية وحلول أخرى مكانها دون أن يتطور ذلك بسرعة إلى تحالفات عسكرية على الصعيد الاستراتيجي. أوضح الأمثلة على التصور الثالث هو الاتفاق التجاري الأخير بين الولايات المتحدة والمكسيك الذي حلّ محل اتفاقية التبادل التجاري الحر”النافتا”، وذلك بعد أن سبق لدونالد ترامب أن هدّد بإلغاء اتفاقية “النافتا” في وقت سابق كنوع من الضغط على المكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة. لكن الرابط بين التفاصيل المختلفة للتحولات الاقتصادية -سواء أكانت تنافراً أم انجذاباً- لا يعني أن عوامل الأمن الإنساني وسباق التسلح لا تبرز في أوقات معيّنة يصعب تحديدها، غير أن الواضح إلى الآن هو أن الاقتصاد يتابع ما وقف عنده الردع النووي، والاقتصاد نفسه هو ما سيكون وقود التسلح النووي على الأقل من جانب الولايات المتحدة.

وعليه فإن خطط الأمن القومي التي تقوم على التعاون وجعل العالم أكثر أمناً ليست سوى أمنيات طوباوية، رأينا عبر التاريخ أنها لم تعد بالفائدة إلا على الولايات المتحدة خلال محاولاتها الدائمة إبقاء نفسها في الموقع الأول، كما يعلمنا التاريخ أن الولايات المتحدة لا تصعد دائماً إلى القمة، بل تبدو نسبياً كذلك وهي تدفع بـ”الآخرين” إلى الأسفل عبر الضغط عليهم اقتصادياً.