دراساتصحيفة البعث

التطبيع والقوى الشعبية العربية.. من المقاطعة والرفض إلى المجابهة

د. معن منيف سليمان

تراهن حكومات التطبيع العربية على تغيير وجهة شعوبها، وتأسيس قناعات ساذجة ترى في العدو الإسرائيلي صديقاً، ومقاومته خصماً، وعلى الرغم من إحرازها بعض الإزاحات الموضعية والآنية، لكن بقي وعي الشعب العربي حاضراً ورفضه قائماً لجميع أشكال التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وكانت الذاكرة الشعبية تتقد مع أول جولة قصف إسرائيلية أو عدوان على المقدسات. وتدرك الحكومات العربية المطبّعة، وكذلك “إسرائيل” أن المقاطعة الشعبية ما زالت تحتفظ بزخمها في البلدان العربية حتى في الدول الخليجية رغم قوة الضخ الإعلامي، إذ إن القوى الشعبية المعارضة للتطبيع مازالت تمتلك القدرة على مجابهة التطبيع وإغلاق أبوابه، خاصة أن الاحتلال الإسرائيلي مستمرّ في انتهاكاته ضدّ العرب في فلسطين.

تعمل بعض وسائل الإعلام العربية التي تنساق حالياً وراء دعاية العدو الصهيوني على تهيئة الأجواء لتقبل فكرة التطبيع، وتراهن في ذلك على اعتقادها على ضعف وعي الشارع العربي، وقوّة ضخّها الإعلامي الذي يعتمد على تكييف الوعي التدريجي حتى يحدث شيئاً من التطبيع المعنوي مع العدو من خلال المواد المنشورة في الصحف والمواقع على الشبكة العنكبوتية أو التي تبث على شاشات التلفزة الرسمية والخاصة.

ولكن ليس هناك إلى الآن ما يعطي الانطباع أن هذه المواد الإعلامية تحظى بشعبية لدى الجمهور العربي وخاصّة الخليجي، بل هناك نقمة واضحة عليها، وهي تفتقر إلى المصداقية والثقة، وخاصّة أنها تتنكّر لقيم ومبادئ والتزامات جوهرية بالنسبة للإنسان العربي تتعلّق بذاته وهويته ومقدّساته، وهي بالوقت نفسه تتنصّل من قضاياه التاريخية والقومية، ولاسيما أنها تفتعل وعياً زائفاً بعيداً كل البعد عن المنطق الأخلاقي والديني، وهي لا يمكن أن تعبّر عن وجهة الشعب العربي والتزامه بقضايا الأمة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

لقد أخذت بعض الأنظمة العربية تستخدم تكتيكات مدروسة ومكثّفة عبر أذرعها الإعلامية وجيوشها الإلكترونية الكبيرة، بغية هدم رمزية القضية الفلسطينية، والاستخفاف بها، وتحطيم الروابط الدينية والقومية مع شعبها، وتصوير الصراع العربي- الإسرائيلي كصراع عبثي لا يعني دولهم، بل كان ومازال عبئاً ثقيلاً عليها ويجب التخلّص منه، فيما يتواصل الثناء على “إسرائيل” بوصفها دولة ديمقراطية متقدّمة، تمتلك خبرات علمية وصناعية وعسكرية يمكن أن تشكّل مع المال العربي وخاصّة الخليجي حلفاً نموذجياً في المنطقة ضد عدوٍّ آخر، وهنا يمكن توجيه البوصلة نحو إيران كعدوّ افتراضي أو بديل.

وعلى عكس الواقع، يرى هؤلاء المطبّعون إن الشارع العربي مهيّأ لذلك، ويتضح ذلك من خلال متابعة تفاعل بعض المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يجدون أن “الخطر الإيراني أشد من الإسرائيلي”، وأن “إسرائيل لم تضربنا بصواريخ، ولم تقم بأعمال عدائية ضدنا، وإنما إيران هي التي تفعل ذلك، وهي التي تهدّد أمننا القومي” بحسب تغريدات بعضهم على موقع التدوين المصغّر “التويتر”، وهكذا يؤكّد بعض المطبّعين على استعداد الشارع العربي ولاسيما الخليجي لأي تطبيع مستقبلي مع “إسرائيل”.

إن جوهر التطبيع الإعلامي، نشر الرواية الإسرائيلية للصراع بأبعادها اليهودية المزوّرة والصهيونية المُلفقة، عبر المنابر الإعلامية العربية، لتدخل كل بيت عربي من أجل اختراق عقولهم وقلوبهم ونفوسهم، للتشويش على الرواية الفلسطينية للصراع، ببعديها القومي العربي والديني الإسلامي، وصولاً إلى استبدالها بالرواية الإسرائيلية، أو على الأقل كسر الحاجز النفسي، واختراق المناعة العاطفية، الذي يحول بين شعوب الأمتين العربية والإسلامية، وبين قبول الكيان الإسرائيلي كأمر واقع، في المنطقة وفي العقل العربي والإسلامي.

هذا الحاجز النفسي الذي عدّه الرئيس المصري السابق أنور السادات، عقب زيارته للكيان الإسرائيلي لعقد صلح معه، العائق أمام السلام وإزالته شرط لقبول التعايش السلمي مع الكيان الصهيوني، وهو الحاجز الذي يعمل الإعلاميون المطبّعون على إزالته من عقول وقلوب ونفوس كل العرب والمسلمين، من أجل تقبل “إسرائيل” في نفوسهم قبل تقبلها في واقعهم، وهو الحاجز نفسه الذي تحدّث عنه رئيس الوزراء الصهيوني “بنيامين نتنياهو” متبرّماً بأن العائق أمام السلام في المنطقة، هو معاداة الشعوب العربية لـ”إسرائيل” وليس قادة دولهم، فهؤلاء القادة ونخبهم الحاكمة ومن تبعهم من الإعلاميين المطبّعين ارتبطت مصالحهم ووجودهم بعلاقتهم بأمريكا التي أوحت لهم أن بوابة الرضا تمرّ عبر “إسرائيل”، في حين ظلّت الشعوب بفطرتها السليمة بعيدة عن التطبيع ورافضة له.

ولذلك لا يمكن أن تتجاهل الحكومات العربية هذا الرفض الشعبي للتطبيع، وهي تدرك أنها لن تنجح في تمرير تطبيعها العلني مع هذا الرفض، وعلى الرغم من القمع لحرية الرأي والتعبير، ظهر خطاب شعبي رافض لنشاطات المطبعين، ويصرّ على دعم العرب في فلسطين، وانطلقت “هاشتاغات” في السعودية نفسها:”# سعوديون ـ ضد ـ التطبيع”، و”# تطبيع ـ الفيصل ـ لا ـ يمثلنا”، واستجاب السعوديون الرافضون للتطبيع لدعوة “حركة مقاطعة إسرائيل في الخليج العربي” “BDS Gulf” بتكثيف الرفض للتطبيع، وسخروا من الشخصيات السعودية التي خرجت تقلّل من شأن القضية الفلسطينية، مؤكّدين أن قضية فلسطين ثابتة في قلوب السعوديين.

كما أطلق العديد من السعوديين حملة لفضح قائمة مروّجي التطبيع من الكتّاب والإعلاميين الذي دعوا للتطبيع، وخوّنوا الفلسطينيين في وسائل الإعلام والصحف السعودية، تحت اسم “قائمة العار”، ومع هاشتاغ “سعوديون ـ ضد ـ التطبيع”، كتبت الناشطة السعودية نهى البلوي:” سنبقى ضدّ الكيان الصهيوني المحتلّ، غير معترفين به كدولة، رافضين التعامل معه، وعاملين على سقوطه وفنائه”، وأضافت البلوي:” الشعوب العربية شعوب شريفة حرّة، بقيت شوكة عصيّة على الكسر في حلق الصهاينة والمطبّعين، وما رضخت، بالرغم من كل محاولات التطبيع ومبادرات السلام الزائفة.. لو امتلكت هذه الشعوب قرار تحديد مصيرها؛ لما حكمها هؤلاء الخونة الجبناء”.

أما السعودي “طارق الرويلي” فكتب:” لم أتوقع في يوم ما أن أرى مطبّعين عندنا، ولو طبّع العالم أجمع، لكن صدق الشاعر: من يهُن يسهل الهوان عليه.. ما لجرحٍ بميتٍ إيلام”. كما كتبت المعارضة السعودية في الخارج “مضاوي الرشيد” أن: “محمد بن سلمان وإمبراطوريته الإعلامية بحاجة لمحاولات صعبة جداً من أجل التغلّب على الجذور الشعبية السعودية المعارضة للتطبيع مع إسرائيل”.

إن خطورة التطبيع مع النظام السعودي تكمن في أنه يمرّ على أنقاض القضية الفلسطينية بعد تصفيتها، ولن تتوقف تبعاته عند حدٍّ معيّن، بل سيتفاقم الأمر حتى تتلاشى القضية الفلسطينية بكافة مكوناتها، وبالتالي باتت مقاومة هذا التطبيع ومواجهته أمراً ملحّاً وضرورياً.

لذلك نجد أن تطبيع بعض أنظمة الدول العربية بشكل علني مع “إسرائيل”، يقابله غضب شعبي يرفض الاعتراف بمغتصب الأرض، وقاتل الأطفال والنساء، صديقاً. وإن مواقف الناشطين الرافضة للتطبيع تتصاعد يوماً بعد يوم على مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات، وتدفع بكل ثقلها باتجاه أن يكون لها دور أساسي وتاريخي في تحريض الشعب العربي ليس للرفض فحسب، بل للتحرك نحو إغلاق الباب أمام عملية التطبيع بين كيان الاحتلال الصهيوني ودول التطبيع العربية.