دراساتصحيفة البعث

ترامب والأونروا.. وقف التمويل وتصفية حق العودة

د.معن منيف سليمان

يرمي الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، من خلال الدفع في اتجاه وقف تمويل وإغلاق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، إلى تحييد ما يعدّه “عقبةً” على طاولة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، فيرى أن مسألة “حق العودة” هي “عقبة” في طريق “السلام”، يجب إزالتها من طاولة المفاوضات. وهي استراتيجية جديدة لإدارة ترامب تقوم على مبدأ إنهاء القضايا الجوهرية والمركزية التي تطيل أمد الصراع العربي – الإسرائيلي، وتدخل ضمن ما يُعرف بـ “قضايا الحل النهائي”. وهكذا من خلال تحييد ملف القدس، ثم محاولة تحييد ملف اللاجئين، بالتوافق الكلّي مع “إسرائيل”، فإن معالم خطة ترامب لتصفية قضية فلسطين، ضمن ما تعرف بـ “صفقة القرن”، باتت واضحة المعالم هدفها الرئيس إزاحة المفاوضات عن الطاولة. ولكن والأهم من ذلك كلّه، لن تتمكن إدارة ترامب ولا “إسرائيل” تحييد ملف اللجوء الفلسطيني، ولن ينجحوا في إجهاض تطلعات الفلسطينيين إلى حق العودة؛ فما دام هناك احتلال وتشريد، سيبقى هذا الحق مع التعويض قائماً حتى يتحقّق.

تاريخياً، تعدّ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ” الأونروا” أكبر الهيئات العاملة في توفير الخدمات الرئيسة، في مجالات التعليم والإغاثة والخدمات الاجتماعية، لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني في مناطق عملياتها الخمس، وهي: الضفة الغربية، وقطاع غزة، ولبنان، والأردن، وسورية.

ففي 8 كانون الأول عام 1949م، تأسست “الأونروا” بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم /302/، كمنظمة مؤقتة تعمل على تقديم الإغاثة المباشرة وبرامج تشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، على أن تجدد ولايتها كل ثلاث سنوات لغاية إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، ومقرّها الرئيس في فيينا بالنمسا، وعمّان بالأردن.

وتموّل الوكالة من تبرعات طوعية من الدول المانحة، وتعدّ الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة الدول المانحة ما يقارب 30 بالمئة من إجمالي التمويل، وتليها المفوضية الأوروبية، وبريطانيا، واليابان، وكندا، والدول العربية وغيرها.

وكانت الإدارة الأمريكية قد أعلنت يوم الجمعة 31 آب هذا العام 2018م، بوضع حدٍّ للمساعدة المالية التي ظلّت تقدمها إلى وكالة الأمم المتحدة، لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى “أونروا” منذ عام 1949م، وقد ترافق قرار وقف تمويل “أونروا” مع قرار آخر اتخذته إدارة ترامب يتمثّل بحجب مساعدات إغاثية وطبية وتنموية بقيمة 200 مليون دولار، كان من المفترض صرفها هذا العام في الضفة الغربية وقطاع غزة. يأتي ذلك ضمن سلسلة خطوات مثيرة للجدل اتخذتها إدارة ترامب، وأثنت عليها الحكومة الإسرائيلية، بالوقت الذي أثارت صدمة وقلق لدى الفلسطينيين، لأنها تجعل حلم إقامة دولة مستقلة أبعد من أي وقت مضى.

عكست إدارة ترامب بقرارها وقف تمويل “أونروا” بصفة نهائية سياسة أمريكية مستمرّة منذ سبعة عقود، التزمت خلالها الولايات المتحدة تقديم نحو ثلث ميزانية الوكالة لمساعدة الشعب الفلسطيني، الذي شرّدته “إسرائيل” من وطنه، واستولت على أرضه. وكانت واشنطن قد أدّت دوراً مركزيّاً أيضاً في إنشاء هذه الوكالة؛ لتكون معنيةً حصراً بتقديم المساعدات للشعب الفلسطيني، ولكن ترامب قلب هذه السياسة، وحوّلها إلى أداة ضغط، للمساعدة في تصفية هذه القضية، ضمن سياق مبرمج ومدروس، غير أن حسابات الرئيس ترامب، وبعض مساعديه هنا، لا تقوم على استشراف حقيقي للتداعيات الخطيرة المحتملة لقرارتهم، بقدر ما تقوم على تماهٍ كلّي مع حسابات الائتلاف اليميني الحاكم في “إسرائيل”.

لقد استهدف القرار الأمريكي عقاب “الأونروا” لرفضها الاعتراف بالقدس عاصمة “إسرائيل”، وفي الوقت نفسه عقاب الفلسطينيين، لرفضهم العودة إلى طاولة المفاوضات بوساطة أمريكية، ما يحرمهم حقهم التاريخي في المقاومة، وقد سلف أن عبّر ترامب عن ذلك بتهديده “الأونروا” قائلاً:” إن الولايات المتحدة قد توقّف التمويل للفسلطنيين لأنهم لم يعودوا مستعدّين للمشاركة في محادثات السلام”.

بات واضحاً أن وكالة “الأونروا” وغيرها من الوكالات الدولية العاملة في خدمة الشعب العربي في فلسطين، تخضع بالأساس لأجندات سياسية، وترتبط مصائرها بالقرارات السياسية بشكل عام، والخيارات المطروحة حالياً أمام الطرفين الفلسطيني والأممي هو إما أن تعود السلطة الفلسطينية إلى المفاوضات عبر الوساطة الأمريكية مقابل استمرار التمويل؛ حيث إن المستهدف الأول هو اللاجئون الفلسطينيون، الذين سيصبحون مرّة أخرى فريسة للقرارات السياسية التي تحدّ من فرصهم في الكفاح والمقاومة، وفي تلك الحالة ستظل الخدمات الأساسية لـ”لأونروا” ملتزمة بالمطالب السياسية لإدارة ترامب والمتحدية للتوافق الدولي، فيما يتعلّق بالقدس، أو تقوم الوكالات الأخرى بملء فراغ التمويل الذي سبّبه وقف التمويل الأمريكي.

وفضلاً عن ذلك، فإنّ “إسرائيل” هي الأخرى تسعى الآن لسلب الفلسطينيّين أداة الضّغط تلك، ويساعدها في ذلك ترامب بداية من خلال الاعتراف بالقدس كعاصمة لـ”إسرائيل” عبر نقل سفارة بلاده إليها، وتالياً من خلال إلغاء المساعدات المقدّمة إلى “الأونروا”؛ فـ”إسرائيل” يقلقها وجود “الأونروا” واستمرار الدّعم المقدّم لها، فالمنظّمة تساعد جميع الفلسطينيّين ومنهم المولودين في الخارج، سواء في سورية أو لبنان أو في أيّ مكان آخر، على الحفاظ أو وراثة صفة اللاجئ.

إن قرار الرئيس الأمريكي ترامب الذي قطع جزء كبير من المساعدات المقدمة للفلسطينيين، سوف يعزّز موقف “إسرائيل”، ويضعف قدرة الولايات المتحدة على الدفع بتسوية النزاع، ويؤجّج التوتر في الشرق الأوسط، وبناءً على ذلك، جاء اعتراض المؤسسات الأمنية والعسكرية في الولايات المتحدة على قرار ترامب؛ من منطلق أن قطع المساعدات التعليمية والصحية والإغاثية التي تقدّمها “أونروا” لملايين الفلسطينيين سوف تؤدي إلى انفجار بينهم، وإطلاق جولة جديدة من العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فضلاً عن زعزعة استقرار الدول المضيفة للاجئين، التي تتلقّى مساعدات من وكالة “أونروا”، وهي الأردن وسورية ولبنان. وهذا الخوف تحديدًا هو ما دفع دولاً، مثل ألمانيا واليابان، إلى إعلان نيتهما زيادة مساعداتهما لـ “أونروا”، غير أن من غير المرجّح أن يتمكّنا من تغطية العجز الذي خلفه الانسحاب الأمريكي.

هل يؤدّي إلغاء دعم الولايات المتّحدة المادّي لـ”لأونروا” إلى حلّ للنّزاع في منطقتنا العربية، وهل يُمكن أن تظل “الأونروا” على قيد الحياة أو أن تقوم بمهمتها على أقل تقدير في غياب المساهمة الأمريكية في ميزانيتها؟

إذا كان حق العودة يمثّل عائقاً في نظرهم، فإنه ليس سوى من جملة عوائق كثيرة تقف في وجه حلّ الصّراع أيضاً؛ فالتّوسّع في المستوطنات يمثلّ عائقاً، وسياسة ترامب سواء في نقل السّفارة أو في المساعدات العسكريّة السّنويّة لإسرائيل التي تقارب 3,8 مليارات دولار وغيرها من وسائل الدّعم لـ”إسرائيل”، كل هذا لا يُساعد على إيجاد حلّ، بل يزيد المسألة تعقيداً، فما يتمنّاه ترامب هو سلام لمصلحة “إسرائيل” وحسب.

أما بالنسبة لقدرة “الأونروا” على البقاء في ظل غياب المساهمة الأمريكية، فإن “الأونروا” تعيش ـ من ميزانية سنوية إلى ميزانية سنوية أخرى بفضل تبرّعات من بلدان العالم أجمع. لذلك فإن المجموعة الدولية هي الجهة الوحيدة التي بإمكانها تقرير مستقبلها.

وتبقى المفارقة التي تثير الدهشة والاستغراب، هو الدعم المطلق للكيان الصهيوني الإرهابي بالمال والسلاح والمواقف السياسية، من قبل بعض الدول المانحة “للأونروا” أمام دعمها الخجول لهذه المنظمة التي تقدم المساعدات والخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية لأناس شرّدوا من بلادهم قسراً، ويعيشون في ظل ظروف معيشية قاسية، نجمت عن الإجراءات العدوانية التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي ضدّهم.