ثقافةصحيفة البعث

لأن النعم لا تدوم مات أبي

ما هكذا عهدي بك يا تشرين..!! لم كل هذه القسوة ..؟! أين ساعات الفرح القليلة، التي كنت تخبئها لي.. ماذا جرى يا تشرين؟! لم أكن يوما ماهرة بضرب المواعيد مع الحزن، كنت أطهو الفرح بكل النكهات وأوزعه على الجميع بالمجان، وها أنا ألبي دعوة القدر على ولائم الموت الذي قهر الرب به عباده.. الآن عرفت جيداً، بأن الوقت قد يموت بفعل فاعل، كما يسحق العشب الصغير تحت الأقدام.

بيت بلا روح، بلا قلب، فجأة وبلا سابق إنذار تحول إلى كتلة هامدة من الإسمنت، تتباهى بالقسوة واللا حياة.. ورود متسمرة بعيون فارغة، تأكلها الحيرة كلما همت بالإجابة، عن أسئلة يقطر منها دمع الفراق.

شجرة الزيتون المنتصبة في وسط الدار، أجلت مشاريعها الصغيرة احتراما للغياب اللئيم، حيث كانت على وشك الإنجاز بحضرة راعيها.. ورد تشرين في خجل من أمره، فحتى اللحظة متردد في الإزهار من باب الحياء، فبعد الآن لا ورد يسرد قصص الحب والخير في هذه الدار.

هذا صباح آخر حزين مر من دونك يا أبي،  كنت لي الصباح وكل عناوين الحياة، كنت لي الفرح وساعات الصفا وكرمى لعينيك أحببت القهوة مع حبات الهيل التي تشبه رائحتك.

مات أبي في زمن مازال فيه الموت سخياً على السوريين، ولازالت رائحة الحقد والبارود تملأ المكان، فالحرب اللعينة فعلت فعلها في نفوس الناس كلهم، ولم تكن بريئة من مرض أبي العضال، نعم هي الحرب، ولكن لموت الآباء طعم آخر، طعم مائل للعلقم يتركه في الحلق غياب الأحباب.

ببراءة الأطفال أتمنى أن يعود عن موته قليلاً، لأشرب معه قهوته الغالية على قلبه، ولأشاكسه بكلماتي التي كانت تجعل عيناه تضحكان رغم قسوة المرض الذي أرغمه على نسيان صوت الكلمات، كنت أقول له لأداعبه قليلاً، حيث كنا تتبادل أطراف الحديث بالكتابة، لأنه لا يستطيع الكلام (حسن خطك يا أبو فايز لم أعد أفهم ما تكتب.. علاماتك متدنية هذه الأيام)، فيضحك كالصباح عندما يتنفس بين الأزهار.

ماتت أمي والآن مات أبي، الآن عرفت جيداً ما هو اليتم، وعرفت لونه الأسود الداكن، فغياب الوالدين لا يشبه أي شيء، ولا يشبه أي غياب، إنه يقتل إن كنتم لا تعلمون.. ليت الآباء يعودون مع كل احتياج.. لا أعلم من رضى الرب أم من مكره يموت الآباء، ولأن النعم لا تدوم مات أبي، فسلام الله يا والدي عليك، مقدار ما أحببتنا، ومقدار ما رحمتنا، ومقدار ما أسستنا، ومقدار ما سترتنا، ومقدار ما افتقدناك.

لينا أحمد نبيعة