ثقافةصحيفة البعث

“الحفيدة الأمريكية”..لكل الحروب رائحة البصل العفن

“كلامي ثرثرة قد تعرضني ورفاقي للخطر، والتعليمات تريدني خرساء، لذا تضايقت للمرة الأولى من بزّتي العسكرية التي تعزلني عن الناس. كأنني في خندق وهم في آخر، بل إنني بالفعل في خندق وهم في آخر، ولي مثل الممثلين البارعين في التقليد، القدرة على التقمص وتغيير الشخصيات، وعلي أن أكون ابنتهم وعدوتّهم في آن، وأن يكونوا هم في الوقت عينه أهلي وخصومي”.

تلك كانت أول كوابيسها بعد أن وصلت “زينة بهنام” إلى أرض العراق “من يومها بدأت أعي إصابتي بأعراض داء الشجن وأتعايش معه ولا أبحث له عن دواء” والفتاة ذات الأصول العراقية هي الشخصية الرئيسية في رواية إنعام كجه جي “الحفيدة الأمريكية” وحولها تُدير مجمل أحداث القصة، حصلت على جنسيتها الأمريكية بعد هروب والدها “صباح بهنام” المذيع السابق من العراق عبر الأردن باتجاه الولايات المتحدة، حيث نال أفراد العائلة الأربعة الجنسية الأمريكية إلى جانب الكثيرين من العرب والأجانب في احتفال كبير عدّوه جميعهم عيداً كبيراً لا بل أكبر من العيد كونه أمر لا يتكرر مرتين، إلا بتول والدتها التي انكمشت على نفسها وحزنها وراحت تبكي “مددت يدي وتلقفت يد ماما المتيبسة، بينما الجموع تضع أيديها على مواضع قلوبها وتلهج بالنشيد الوطني الذي تعزفه فرقة للجاز:”يارب احفظ أميركا..غاد بلِس أميركا” وكان صوت السيدة العراقية بتول الساعور/ أمي هو النشاز الوحيد الذي يُولول بالعربية سامحني يا أبي، يابا سامحني”.

الفرصة
هناك ستمر العائلة بكل المتاعب المتوقعة لعائلة مهاجرة انفصل الأب عنها واستقل في حياته في مدينة أخرى، يدمن “يزن/ جايزن” على المخدرات وتنفرد زينة بقراراتها المصيرية بعيداً عن أي سلطة أبوية ولذا فهي سرعان ما سوف تندفع لالتقاط فرصة السفر المغرية إلى العراق والعمل كمترجمة للجنود الأمريكيين ليس حباً بالجيش ولكن “سبعة وتسعون ألف دولار في السنة ماكل شارب نايم” كانت كفيلة بذلك؛ تترك خلفها عائلتها وصديقها الأمريكي “كالفن” الذي أوصته في أول رسائلها “لاتقلق علي، لاتنس سقي نباتاتي، وإذا غبت طويلاً وأردت أن تحب علي فلا تخترها عراقية هذه المرة.. جحيم واحد يكفي في الحياة”.

الغد الأفضل
سوف تجبر نفسها على التماسك في مواجهة حنينها ومشاعرها بينما قلبها وعند كل مشهد يحاول الانفلات من بين ضلوعها، وتصرخ بعفوية “هذه السامراء” حيث تاريخها الخاص سِفرات المدرسة وبنات الصف، الضفائر والشرائط البيض وحلقات الرقص على أغنية “يا يمة انطيني الدربين” تستعيد ذكرياتها وجدتها وكلماتها “زوينة حبوبتي، هل هناك بلد على هذه الأرض غير بلدنا يتسلى أهله بذكريات القهر وهدّ الحيل؟”. ولا يمكنها إلا أن تكذب عليها وتقول أنها قدمت للعمل مترجمة لشركة مقاولات في وجه تساؤلاتها المتشككة “أنت تشتغلين مع الأميركان مو هالشّكل، يعني ممن تاخذين راتبك يا بنتي؟ من بوش لو من كوفي عنان”؟ لم تكن تساؤلات الجدة إلا انعكاساً لوعي سيدة متعلمة وقارئة وتتابع كل صغيرة وكبيرة حين يتعلق الأمر بالوطن، وهي حين ترى حفيدتها قادمة إليها للمرة الأولى بالبدلة المموهة سوف تلطم خديها “ليتني مت قبل دخولك علي هذه الدخلة السودة” وعندما تزور المعسكر حيث تقيم، ستكون الفرصة للتعرف على حيدر الذي يبدي استعداده للزواج بها رغم الاختلاف الديني وقد رأى فيها فرصته للانعتاق من أسر محيطه “الوحيدة التي في إمكانها أن تنتشله من مستنقع الرمال المتحركة الذي يغوص فيه، سترتب له أوراق الهجرة وتسحبه معها إلى أميركا، وهناك سيعيش شبابه الذي ضاع منه، ويشرب على هواه، ويطيل شعره ويرقص ويغني” ولهذا فهو سيخفي حقيقة عملها عن مهيمن أخيه الذي يختلف عنه في كل شيء شيوعي تحول إلى متدين بل إلى متطرف عنيد صلب، وهو بشخصيته المتوترة وأسلوب خاص في الحديث استحوذ على مشاعرها بل إنها لم تجد حرجاً عندما حاولت استمالته وتمنت الزواج به، إذ هي بذلك تعيد تجربة الزواج المختلط التي سبقتها إليه أمها والتي أثارت غضب الجد في حينه “آشوري إش جابوا على العرب” في إشارة من صاحبة الرواية إلى أن التعصب لم يكن ليقتصر على دين معين أو طائفة محددة. ولكن الأمر ليس سواء والحب بقي من طرف واحد.
ستكتشف أن العراق الذي كان ينشد التحرر سيقع في دوامة الفوضى الخلاقة والإرهاب الذي يتغلغل في كل بقعة وحي وداخل كل مفصل من مفاصله وتحزن لهؤلاء الذين كانوا يتطلعون إلى “الغد الأفضل” وهم لا يعلمون أن للعبارة تفاسير تختلف عما في خيالاتهم “الغد كلمة غامضة في قواميس الحروب” وتفكر لماذا والناس متعطشة للتغير “تطفح العيون البارزة من شقوق العباءات بكل هذا الصد؟ نظرات لا تعكس ألفة وفرحاً. كان الحزن بؤبؤها” وتدخل الخشية والتوجس إلى روحها “كيف ستكون أيامي المقبلة في البلد الذي لم يعد يعني لي أكثر من حاوية لعظام الأجداد”؟. ثم ترى ذاتها متورطة أكثر وتترك العنان لروحها الانزلاق إلى “التخوم الخطيرة للوله” بينما مواطنيها “الآخرين” من الجنود منشغلين في عمليات جردٍ للأموال والقصور والممتلكات التي يحوم الغموض حول مصيرها والكثير من التساؤلات حتى اليوم.

طعم الخل
في حوار بينها وبين مهيمن المهموم حول مصير الكثير من الذين تركوا الحياة التي اعتادوها ومضوا إلى المجهول سيختلفان كثيراً يقول لها “أنا لا أعرف سوى الوطن الأم، لا يمكنني أن أتصور الوطن الخالة أو الوطن العمة، أشد ما يثير سخريتي تعبير وطني الثاني” بينما ترى أنه يمكن للعالم أن يكون وطناً للجميع!!. يتشاركان الكثير من الذكريات والقراءات الشعرية وأبياتا للجواهري، يتبادلان المزاح والضحكات ثم يعود للسخرية منها وتعود هي لتلعن الساعة التي عادت فيها إلى البلد وتفكر بيأس”أظن أن تجربتي العراقية بدأت تأخذ طعم الخل”، إذ بقي يخاطب فيها البنتاغون، حتى بعد أن أخبرته بأنها لن تجدد عقدها كمترجمة “لن تهربي قبل أن تشهدي فيلم خروجكم من هذا البلد.. هل أعددتم ما يكفي من طائرات لنقل العملاء؟
– خلصناكم من صدام.
– طردتم كينغ كونغ من المدينة وقبضتم ثمنه العراق كله.
ستعود إلى أمريكا وحيدة لن يرافقها لا حيدر ولا مهيمن ولا تذكارات بين يديها الخاويتين إلا من حبتي “نومي” لوالدتها قطفتها من حديقة البيت الذي أمضت فيه شبابها، وترى نفسها تردد عبارة أبيها “شُلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد”.
هكذا بلغة خاصة وفكرة ناجحة وعبر أدوات ومضمون لحكاية مليئة بكل المتناقضات نسجت خيوطها جيداً، قدمت إنعام كجه جي روايتها ترصد الانعطافات والتغيرات الاجتماعية والسياسية والانكسارات في زمن الحرب، تصويرها لحياة العراقيين في مجتمعين مختلفين أتى واقعياً وخصوصاً تلك التي تتعلق بالخصوصيات التي يتميز بها أهل الموصل قديماَ، وعبر تجربة بطلتها قدمت نفسها كعراقية تفتقد وطنها لكنها تشعر بالانهزام والخسارة في معركتها أمام بلد الحضارات الذي حولته الحرب والفساد إلى بلد الانقسامات والدمار، وسلطت الضوء على إشكالية الازدواجية في الانتماء والمعاناة الشائكة التي انعكست ازدواجية وتذبذباً في موقف زينة من الحرب ما بين إدانتها أو المشاركة فيها ومن هو الطرف الذي يتحمل المسؤولية فيما وقع للعراق إذ كان كبش الفدا لأحداث 11 أيلول واحتلال خلف دماره على الأرض وفي النفوس والمجتمع فتباينت المواقف حتى بين أفراد الأسرة الواحدة مثالها التمايز ما بين بطلة الرواية والجدة أو مابين مهيمن وحيدر لتصل إلى زبدة الكلام في عبارتها “الحرب بصلة عفنة”.
للكاتبة القادمة من عالم الصحافة تجارب إخراجية إضافة إلى روايات “سواقي القلوب 2005” و”الحفيدة الأميركية “2008 التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2009 وصدرت بالإنجليزية والفرنسية والصينية، في العام 2014 أصدرت “طشاري” التي أهلتها للفوز بجائزة لاغاردير، ثم “النبيذة” في 2017.

بشرى الحكيم