دراساتصحيفة البعث

ماكرون.. لا مجال للخروج من العباءة الأمريكية

 

طلال ياسر الزعبي
لم يكن يعتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تنقلب دعوته الأخيرة إلى إنشاء جيش أوروبي موحّد وبالاً عليه، حيث كان يظن أن مثل هذه الدعوة ستجد أذناً مصغية من سائر الدول المنضوية تحت الاتحاد الأوروبي، على اعتبار أن فرنسا بعد خروج بريطانيا من هذا الاتحاد أصبحت إلى جانب ألمانيا الحامل الرئيسي له سياسياً واقتصادياً، وقد تصرّف ماكرون بطريقة استفزازية عندما جال مع المستشارة الألمانية آنجيلا ميركل في ساحة النصر وأعلن من هناك أن الذكرى الأليمة للحرب العالمية الأولى أصبحت وراءه، وأنه سيسعى إلى جانب ميركل للوصول إلى أوروبا قوية مستقلة بقرارها، حيث أعلنت ميركل فيما بعد موافقتها على الطرح الفرنسي بإنشاء جيش أوروبي موحّد، الأمر الذي استفزّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجعله يردّ بشكل غير مباشر عليه بالقول: “إن فرنسا كانت ستتعلم اللغة الألمانية لولا مساهمة الولايات المتحدة في إنقاذها من براثن ألمانيا”.
كان ماكرون يضرب على وتر شديد الحساسية عندما أراد أن يصبح زعيماً لأوروبا التي يريدها مستقلة بقرارها عبر إنشاء جيش أوروبي موحّد يحل محل جيش الـ”ناتو” الذي يخضع عملياً بقراراته لواشنطن على اعتبار أنها المموّل الرئيس لنفقات الحلف الأطلسي، وبالتالي هي تقرّر السلم والحرب فيما يخصّه.
وتحت هذا العنوان، كتبت فيميدا سليموفا في “نيزافيسيمايا غازيتا”، حول عودة ماكرون للدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي مشترك ودعم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لهذا التوجه.
وجاء في المقال: على الرغم من تدني مستوى شعبيته في البلاد (25%)، لا يزال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -الذي لا يخفي طموحاته بأن يصبح الزعيم الجديد لأوروبا- ناشطاً على الساحة الدولية. فقد قام بزيارة إلى برلين.. خاطب خلالها نواب البرلمان الألماني، داعياً مرة أخرى الأوروبيين إلى التعامل مع دفاعهم وأمنهم “بمسؤولية أكبر”، ومؤكداً أن أوروبا لن تكون قادرة على لعب دورها الصحيح إذا أصبحت لعبة في يد بعض القوى الكبرى، ولم تتفاعل بقدر أكبر من المسؤولية مع دفاعها وأمنها، رافضاً الموافقة على أدوار ثانوية على الساحة الدولية.
وقد دعمت ميركل -من المنصة الأوروبية في ستراسبورغ- ماكرون في إنشاء جيش أوروبي، وأشارت إلى أن إنشاء قوات مسلحة أوروبية مشتركة سيظهر للعالم أنه لن تكون هناك حرب بين دول العالم القديم. وأضافت: إن الجيش الأوروبي يمكن أن يكون مكمّلاً جيداً لحلف الناتو.
ولكن هذه العبارات المطمئنة التي أطلقتها ميركل لم تجد مَن يقتنع بها غرب الأطلسي، إذ فُسّر هذا الطرح من واشنطن على أنه دعوة صريحة للخروج من الحلف بوصفه الذراع العسكرية الطولى لها في التدخل حول العالم، وكذلك لم يعُد ممكناً للبيت الأبيض القبول بـ”حليف” أوروبي يستطيع أن يخالف رغباته وتوجّهاته في السياسة الدولية، فالموقف الذي أبداه بعض الأوروبيين إزاء انسحاب واشنطن الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران، وإن لم يكن حتى الآن ذا تأثير في تخفيف العقوبات، أثار في واشنطن جملة من التخوّفات يأتي في مقدّمتها أن أوروبا التي كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تابعة في قراراتها لحليفها الأطلسي الأكبر، بدأت تجاهر برفض سياسات البيض الأبيض في العالم وربما بمهاجمتها أو الالتفاف عليها، وهذا الأمر ليس ممكناً لو لم يكن الصعود الروسي في الشرق دافعاً ومحرّضاً لهؤلاء على التفرّد بقرارات تمنحهم نوعاً من الاستقلالية عن واشنطن التي تفرّدت طوال السنوات الماضية باتخاذ القرارات المصيرية عنهم.
بداية كان لا بدّ للإدارة الأمريكية من صناعة حاجز كبير بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، لمنع أوروبا نهائياً من التفكير بموسكو على أنها حليف مستقبلي بديل، أو على الأقل بناء علاقات قوية مع هذا الجار، فعملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على شيطنة روسيا عبر تصويرها عدوّاً مفترضاً لأوروبا، وذلك من خلال التركيز على برامج التسلح الروسية وخاصة في مجال الأسلحة الاستراتيجية، وراحت من خلال سيطرتها على قرارات الحلف تدعو الدول الأوروبية إلى تعزيز وجود الحلف على حدود روسيا بدعوى ردعها، وفي الحقيقة هي تستخدم الحلف أداة لمحاصرة روسيا ومنعها من الظهور مجدّداً على الساحة الدولية قطباً في عالم جديد متعدّد الأقطاب تتوجس منه واشنطن ولا تخفي قلقها من إمكانية ولادته.
هذا السعي نحو شيطنة روسيا بلغ ذروته في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي سعى منذ توليه مقاليد السلطة في البيت الأبيض إلى تحجيم الدورين الروسي والصيني من خلال العقوبات الاقتصادية، حيث شنّ في سبيل ذلك حرباً تجارية كبرى تبيّن له أنها لن تجدي نفعاً في كبح تطوّر البلدين، وهذا ما ظهر مؤخراً خلال قمة العشرين المنعقدة في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، حيث وجد نفسه مضطرّاً للتفاوض مع الصين حول الخلافات التجارية؛ لأن أوراق الضغط التي يمتلكها قد استهلكها جميعاً في محاولة إخضاع الصين.
ومن جهة ثانية سعت الإدارة الأمريكية إلى إثارة الخلافات بين روسيا وسائر الدول الأوروبية، تارة عبر جارتها أوكرانيا وأخرى عبر بريطانيا من خلال قضية سكريبال، وفي الحالتين استخدمت الإدارة الأمريكية القضيتين في محاولة توسيع الهوة بين الدول الأوروبية والجار الأقرب روسيا لمنعهما من التواصل، فعمدت إلى فرض العقوبات على روسيا بحجة هذا الأمر، وفي الواقع هي تعاقب أوروبا من خلال منعها من جني مكاسب عظيمة من تعاونها مع جارها الروسي.
وعلى هذا النحو لا يمكن أن نفسّر الحادث الذي وقع في مضيق “كيرتش” بين السفن الأوكرانية الثلاث والبحرية الروسية على أنه حادث عرضي، بل هو مدبّر ومرسوم من غرب الأطلسي أريد له على الصعيد الداخلي الأوكراني تأجيل الانتخابات الرئاسية المقرّرة في آذار المقبل أو إلغاؤها بعد أن تبيّن أن فرص نجاح الرئيس بيترو بوروشينكو فيها معدومة، وعلى الصعيد الأوروبي أريد له التركيز على دور حلف شمال الأطلسي “ناتو” في حماية أوروبا من العدوّ المفترض الروسي، وذلك في ردّ غير مباشر على مساعي ماكرون وميركل معاً لإنشاء جيش أوروبي مستقل يفترض أن يكون بديلاً للناتو، وذلك لمنع أوروبا كلها من الاعتماد في أمنها على نفسها، أو الاتفاق مع الجار الأقرب روسيا على صيغة معيّنة للأمن تخرج واشنطن فعلياً من دائرة التأثير في هذه المنطقة أو فرض هيمنتها على القرار الأوروبي.
ومن هنا لا نستطيع النظر إلى الأحداث الأخيرة في أوروبا من باب حسن النيّة، حيث يمكن أن تكون حادثة بحر آزوف إشارة إلى أن أوروبا بأكملها لا تستطيع مواجهة روسيا بمفردها، وكذلك لا يمكن أن تكون أحداث باريس الأخيرة التي شكك الكثيرون فيها قد وقعت على خلفية أسباب داخلية، وخاصة أنه تبيّن إمكانية انتقال هذه الأحداث على مبدأ أحجار الدومينو، ما يعني أنها عابرة للدول ولا علاقة لها مباشرة بسياسات ماكرون الداخلية إذ لا يمكن أن تؤثر هذه السياسات في هولندا مثلاً.
وأخيراً يمكن القول: إن التفكير الأوروبي بالاستقلال سياسياً واقتصادياً عن الولايات المتحدة أمر مرفوض في واشنطن، بل هو مؤشّر قوي على انهيار الولايات المتحدة ذاتها، إذ إنها تعتبر الدول الأوروبية الواقعة تحت هيمنتها رافعة أساسية لوجودها؛ ولذلك لا بدّ من خروج بريطانيا من هذا الاتحاد لإضعافه، وكذلك يجب منع فرنسا وألمانيا من الاتفاق على الاستقلال بالقرار الأوروبي عن واشنطن بجميع السبل، حتى لو اضطرّت واشنطن لإشعال حرب عالمية ثالثة في أوروبا مرة أخرى.