ثقافةصحيفة البعث

مأزق الحداثة الشعرية.. أجمل الشعر لم يعد أكذبه.. والقمر لم يعد صالحاً للشعر

 

ثلاث عتبات عبرتها التجربة الشعرية العربية في مسيرة الحداثة: العتبة الأولى تمثلت بذلك الحراك الشعري الذي نتج عن تغير الظرف التاريخي والمعطيات الحياتية، والتي أدت بدورها إلى تغير في المزاج الكتابي لدى العديد من شعراء تلك الفترة، وهو ما دفعهم إلى مراودة تجربة جديدة في الشعر عملوا من خلالها على تجاوز المواضيع التقليدية والأغراض المعروفة حينها للشعر، ليخرجوا إلينا بقصائد ذات مضامين جديدة، لكنها بقيت أمينة للشكل والقافية والوزن الفراهيدي.
رأينا ذلك في قصائد الشعر المهجري، جماعة أبوللو وغيرهم، ممن تمّ تصنيفهم في زمرة الشعر الرومانسي.
العتبة الثانية تمثلت بقصيدة التفعيلة، التي توجت تجارب عديدة في كتابة ما سمي الشعر المرسل، والشعر الحر بعد ذلك. هذه التجارب التي عملت على التخلص من محددات القصيدة التقليدية من وزن وقافية وأسلوب، لكنها لم تخرج عن بحور الفراهيدي بشكل كامل، وذلك ما أوضحته نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) حين اعتبرت أنه لا وزن سوى وزن الفراهيدي، فالشعر الحر هو شعر بوزن مستمد منه.
لم يقف الأمر عند قصيدة التفعيلة، فلم تلبث إرهاصات قصيدة النثر أن بدأت مشكلة بذلك العتبة الثالثة للحداثة، وعاكسة رغبة ودافعا لكل ما يقيّد عملية الكتابة. وقد قوبلت بمواقف مختلفة منها، حيث رفضت بالمطلق من قبل البعض، وكان الرفض قاطعاً باعتبارها شعراً، بينما نظر إليه البعض الآخر على أنه تجربة ومن الواجب قبولها وانتظار نضوجها، تيار ثالث رأى أنها خلاصة تجربة طويلة وعميقة وتمثل الشاعرية الجديدة والكتابة الحداثوية أبلغ تمثيل.
لكن ماذا بعد قصيدة النثر، هل تشكل غاية الحداثة الشعرية ومنتهاها..؟
المتابع للمشهد الشعري في السنوات العشر الأخيرة، يعرف أنه لم يطرأ تغييرات كثيرة على القصيدة النثرية، إن كان في مجال تقنية الكتابة وبنية النص، أو في العلائقية اللغوية والتفاعلية المعروفة والتي تعد الأساس لخلق الأثر الجمالي، والأهم في الصورة الشعرية التي تقوم عليها قصيدة النثر، كما يقوم عليها الشعر بشكل عام. وبناء على تأثير التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية على المنتج الأدبي، ذلك التأثير الذي لعب دوراً مهماً فيما سبق في صيرورة الشعر العربي، كان من المفترض أن تنتهي تلك الحالة الستاتيكية التي جمدت تطوير قصيدة النثر والحالة الشعرية بشكل عام.
التغيرات توزعت بين الإرتكاس الذي تمثل بالعودة إلى القصيدة التقليدية وقصيدة التفعيلة، وتعويم النزوع إلى الغنائية التي تلائم الحماسة المتأتية عن الحدث السياسي والعاطفي بشكل عام، إضافة إلى تجارب أخرى في القصيدة أو النص الومضة، وتجارب استندت إلى أنماط أخرى للكتابة استنبطت من الخارج، مثل الهايكو الذي استورد من تجارب الكتابة اليابانية.
هناك تجارب حاولت العمل على البناء الشكلي للنص وذلك بتوزيع مختلف للوحدة اللغوية في الشطرة الواحدة أو في كتلة النص بشكل عام وأحياناً في عمود القصيدة، متوخية خلق إيقاع جديد وبالتالي تأثير جمالي ودهشة مختلفة.
التجارب التي كان لها الأثر الأكبر في محاولة الخروج من جمود القصيدة النثرية، كانت في ذلك النزوع إلى مضامين جديدة غير مطروقة سابقاً، ولم تكن تشكل غرضاً شعرياً فيما قبل، كالاحتفاء باليوميات وتفاصيل الحياة، إضافة إلى تناول مواضيع معروفة من زاوية مختلفة وبأسلوب مغاير كالحرب والحب، الاغتراب وغيرها، هذه التجارب كانت الأكثر من حيث الكم والتأثير وقد قام عليها مجموعة من الشعراء الشباب. والاحتفاء بالحياة اليومية يعني هتك المألوف والبحث عن الجمالي المتواري في خلفية الأداء الحياتي العادي، هذا قرّب القصيدة النثرية أكثر للذائقة الشعبية وجعل قاعدة قراءتها أكثر اتساعاً.
فرضت تجارب التغيير قاموساً شعرياً جديداً يختلف عن القاموس المعروف ويتقاطع معه، حيث استجدت الألفاظ التي لم تكن مألوفة في النص الشعري، مشحونة بدلالات تتجاوز حدود معانيها اللفظية وذلك في سياق الحالة الشعرية وبعلائقيتها مع الألفاظ الأخرى، هذا ما أعطى الصور الشعرية ألواناً جديدة وتشكيلاً مختلفاً عما اعتدناه سابقاً ووصل بها إلى درك العادية. كما أن هناك ألفاظاً وصلت إلى حد البداهة الدلالية واستنفدت وسع طاقتها الجمالية، فأضحت باهتة لم تعد تصلح لتخليق الدهشة، حتى وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار أن القمر لم يعد يصلح للشعر.
لكن كل ما ذكر لم يشكل عتبة حداثوية بالمعنى الكامل، حيث ظلّ يدور في إطار الشكل المألوف للقصيدة النثرية، ما استجد فقط بعض المضامين التي سبق ذكرها والتي لم تتمخض عن كتابة جديدة، رغم أنها حاولت النزول من يوتيبيا الرؤيا إلى مصاف جماليات الحياة بتفاصيلها اليومية، كنتيجة للسأم من تلك المقولات والنظريات التي استهلكت، وأضحت مقعرة بلا طائل.
إن الحاجة لكتابة جديدة تبدو أكثر من ملحة ومتطلبة، ذلك في ضوء ما جرى من أحداث تركت أثرها الكبير والعميق في كل نواحي الحياة، إضافة إلى تغير الحامل المادي للنص الشعري الذي لا بد أن يترك أثره في أسلوب الكتابة، فليس من المعقول أن نكتب الآن نصاً على مبدأ أجمل الشعر أكذبه، أو على نمط شعر الخمسينيات أو الثمانينيات مدورين تجارب سلفت، حتى ولو كانت بمنتهى الأهمية، أو أن تكون الكتابة وكأنها نسخ عن نص واحد، أو أن أستلهم تجارب نفد ألقها بفعل الاجترار.
كيف سيحدث ذلك..؟ هل بالقفز فوق حائط قصيدة النثر، أم بالالتفاف حوله، وربما بفتح ثغرة فيه لتصبح عتبة. إلى الآن يبدو أنه سيبقى موجوداً فلم تنضج تجربة تستطيع فعل ذلك.

مفيد عيسى أحمد