دراساتصحيفة البعث

لحظة ماكرون الحاسمة

 

ترجمة: سمر سامي السمارة

عن موقع بوليتيكو 8/12/2018

بعد مرور خمسين عاماً على أحداث شهر أيار 1968، الشهر الذي حبست فيه فرنسا أنفاسها، يبدو وكأن البلاد تمر بواحدة من نوباتها المثيرة للغضب الشعبي مرة أخرى. فالحركات الاجتماعية تجري في عروق الشعب الفرنسي، وهي التي دفعت بأكثر من حكومة للتراجع عن محاولات الإصلاح.

ولكن فيما يتعلق بالاحتجاجات التي يواجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم فالأمر مختلف؛ إذ تتسم حركة ما يسمى بالسترات الصفراء بشكل أكبر باللامركزية وبملامح يصعب  تحديدها وبعنف أكبر من سابقاتها، كونها بدأت كثورة عفوية، نُظمت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأربكت المراقبين والقادة السياسيين.

تُعتبر السترات الصفراء- خلال المرحلة المقبلة- التي تجمع بين ائتلاف لقواعد شعبية بلا قيادة، وتطالب بحماية اقتصادية واجتماعية تحدياً شعبياً أوسع للديمقراطيات الغربية، ومع تصاعد حدة الاحتجاجات يخشى الكثيرون من استقرار المؤسسات الديمقراطية.

بدأ الأمر كنوبات غضب ضد ضريبة الوقود التي كانت جزءاً من برنامج ماكرون الانتخابي للامتثال لالتزام البلاد ضد تغير المناخ. في الواقع، الأمر أكبر بكثير، فحركة السترات الصفراء ليست مجرد رفض لرئاسة ماكرون، بل إنها ثورة ضد المؤسسة الفرنسية بأكملها.

حركة السترات الصفراء أكبر بكثير من العناصر المكونة لها: إنها انتفاضة حول القدرة الشرائية وجودة الحياة؛ إنها حول كرامة الإنسان. وهي تخص شريحة من شرائح المجتمع التي يعيش معظمها في المجتمعات الريفية وعلى تخوم المدن في فرنسا، حيث تشعر بالضياع والتخلف عن الركب، وتبقى الفرص للقاطنين في باريس.

من الصعب إعطاء حركة السترات الصفراء تعريفاً، ويبدو أنها جمعت المحرومين من كافة أنحاء البلاد وأوجدت تقارباً شعبياً للمتطرفين من كافة المشارب. لكن على الرغم من أن رسالة المحتجين قد ضربت بوضوح على الوتر الحساس لعدد كبير من الناس، إلا أن مدى تمثيل الحركة ما زال غير واضح.

لدى المحتجين مجموعة متباينة من المطالب، من تخفيض سن التقاعد، إلى زيادة الحد الأدنى للأجور، إلى حظر التعاقد الخارجي، أو إعادة دمج ضريبة الثروة التي ألغاها ماكرون العام الماضي، كما أنهم غاضبون بشدة على مؤسسات البلد.

حاولت كل من زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان وزعيم اليسار المتطرف جان لوك ميلينشون استغلال استياء الحركة ضد ماكرون، لكنه تم تجاوزهما؛ فالحركة بلا قيادة وغير مهتمة بالانتماء إلى أي اتحاد أو حزب.

في الأيام القليلة الماضية، طالت أعمال التخريب المعالم العامة وأُحرقت السيارات. وطالب المحتجون ماكرون، الذي تم انتخابه قبل عام واحد فقط، تقديم استقالته واستبداله بجنرال متقاعد. ومن المتوقع حدوث مزيد من العنف بالرغم من تأكيد الحكومة من جديد على الحوار، وإعلانها عزمها إلغاء الضريبة المفروضة على الوقود.

اتخذ الإليزيه خطوات غير مسبوقة لتحذير سكان باريس من أن “الآلاف” من المتظاهرين سيأتون إلى العاصمة بهدف “التدمير والقتل”. وقد تلقى عدد من أعضاء البرلمان تهديدات بالقتل، حيث حدد ممثلو الحركة سعيهم للوصول إلى قصر الرئاسة.

على الرغم من تصوير انتخاب ماكرون كعائق أمام حزب اليمين المتطرف، إلا أن فرنسا ليست بمنأى عن موجة السخط التي تضرب جانبي الأطلسي. في الواقع، في حملة انتخابه، قدّم ماكرون نفسه باعتباره تجسيداً عن عدم الرضا الشعبي عن المؤسسة السياسية.

أنشأ ماكرون قبل سنتين من الترشح للمنصب (وهو إنجاز لم يسبق له مثيل في فرنسا)، حزبه الخاص من نقطة الصفر، ورشح وجوهاً جديدة للبرلمان. وتعهد حزبه
“إلى الأمام”، بتجاوز اليسار واليمين لإقامة تحالف من الإصلاحيين الليبراليين لإنهاء أربعين عاماً من الجمود السياسي الذي ترك البلاد تنؤ تحت وطأة البطالة والركود المتفشيين.

لكن منذ توليه منصبه، أصبح يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه سياسي النخبة فقط، واتهم بابتعاده عن اهتمامات الشارع الفرنسي. وقد تعزز هذا الانطباع بالنخبوية من خلال جهود الإصلاح التي بذلها ماكرون وخطابه المتغطرس. وقد انتشر على نطاق واسع أن ما يقرب من 70٪ من الفرنسيين يدعمون احتجاجات السترات الصفراء. بشكل ما، كانت السترات الصفراء رد فعل على إعادة هيكلة ماكرون للطبقة السياسية الفرنسية، وهو احتجاج ضد سياسته الليبرالية الجديدة.

تشكل الاحتجاجات تحدياً هائلاً أمام ماكرون، إذ لم تبدأ علل فرنسا بانتخابه، فالفوضى التي تعم الشوارع في الآونة الأخيرة هي نتيجة الإحباط المكبوت والافتقار إلى الإصلاحات منذ عقود، والفشل في إعداد فرنسا للمستقبل.

لذا يتوجب عليه التصدي للعنف غير المقبول الذي يهدد البلاد، والذي أودى بحياة العديد من الأرواح. فقد تم انتخابه بناء على وعوده بعدم التراجع في المضي قدماً في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي تأخرت طويلاً من قبل أسلافه. وهو لا يستطيع التراجع عن الالتزامات التي تعهد بها الآن.

على ماكرون أن يقدم رؤية إيجابية حول المستقبل لملايين الناخبين الفرنسيين الذين يشعرون بالتعاطف مع السترات الصفراء.