دراساتصحيفة البعث

منتدى الشرق الأوسط ودوره في مشروع تصفية القضية الفلسطينية

د. مازن المغربي

صار لمراكز الأبحاث والهيئات غير المنتخبة دوراً متعاظماً في التخطيط  السياسي الاستراتيجي بعيداً عن رقابة الإعلام والهيئات التشريعية التي تضم عادة أشخاصاً غير متخصصين لا يمتلكون التكوين الذي يؤهلهم لتحليل المخططات الاستراتيجية بعيدة المدى وتوقع تداعياتها، وإعداد الحلول الاستباقية للعقبات المتوقعة. لكن الظاهر الأكاديمي  المخادع لهذه الهيئات لا يمكن أن يخفي الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن مراكز الأبحاث والمنتديات تستجيب دوماً لتوجهات مموليها وتراعي مصالحهم. ومن أبرز هذه المنتديات جماعة “بيلدربرغ” التي تنظم منذ عام 1954 ملتقيات سنوية بين شخصيات سياسية واقتصادية وإعلامية وصناعية من أوروبا ومن أمريكا الشمالية بهدف مناقشة القضايا الاستراتيجية، وكذلك اللجنة الثلاثية، وهي مجموعة حوار غير حكومية أسسها دافيد روكفلر عام 1973 بهدف تعزيز التعاون بين اليابان وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وكان من أبرز أعضائها مادلين أولبرايت وهنري كيسنجر.

“منتدى الشرق الأوسط”

لكن هذه الدراسة ستركز على “منتدى الشرق الأوسط” الذي يدافع عن مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وينادي بحماية الغرب من التهديدات الآتية من الشرق الأوسط. ويندرج المنتدى ضمن إطار خزانات الفكر المحافظة، وقد تم تأسيسه عام 1990 من قبل دانيال بايبس  وله موقع إلكتروني يحظى بمتابعة الملايين. ويصدر المنتدى دورية مخصصة لشؤون الشرق الأوسط (ميدل إيست كوارترلي) بمعدل عدد كل ثلاثة أشهر، كما يصدر مجلة ( كامبوس ووتش- مراقبة الحرم الجامعي) التي تحاول تحديد أهم خمس مشاكل تواجه دراسات الشرق الأوسط في جامعات الولايات المتحدة وهي  وفق وجهة نظر المنتدى الفشل في التحليل، والخلط بين السياسات والمنح الدراسية، وعدم التسامح مع وجهات النظر المغايرة، والنهج التبريري، وإساءة استخدام السلطة ضد الطلاب. ورأت صحيفة نيويورك تايمز أن هذا المشروع كان من أهم عوامل شهرة مؤسس المنتدى من خلال تشجيع الطلاب و الكليات على  عرض كل المعلومات حول المنح المخصصة لدراسات الشرق الأوسط وحول المحاضرات والمظاهرات، وكل النشاطات الأخرى على “كامبوس ووتش” الأمر الذي رأى فيه البعض محاولة للضغط على الأساتذة الذين يتبنون مواقف تنتقد السياسة الإسرائيلية. بل إن الأمر ذهب إلى حد قيام  إصدار ملف حول ثمانية أساتذة جامعيين تم اتهامهم بمعاداة مصالح الولايات المتحدة؛ الأمر الذي ولد موجة احتجاج واسعة في الوسط الأكاديمي ودفع أكثر من مئة أكاديمي للمطالبة بإدراج أسمائهم على القائمة السوداء الأمر الذي أجبر المنتدى على  سحب الملف من الموقع الإلكتروني في شهر تشرين الأول 2002.

وينشر المنتدى مجلة ( مراقبة الإسلاميين) التي تسعى لتوفير معلومات حول الهيئات الإسلامية التي تنشط ضمن إطار القانون وتقدم تلك المعلومات إلى الحكومة ووسائل الإعلام، و المؤسسات الدينية و الهيئات الأكاديمية بالإضافة إلى عالم التجارة. ويرعى المنتدى مشروعاً قانونياً يهدف إلى توفير حماية للباحثين والمحللين والناشطين الذين يعملون على موضوع الإسلام الراديكالي في مواجهة الملاحقات القانونية التي تسعى إلى منعهم من التعبير عن أفكارهم.

وكان مؤسس المنتدى من السباقين إلى التحذير من الخطر الذي يمثله الإسلام الجهادي على الغرب بسبب طموحات هذا التيار السياسي  التي حذر منها منذ عام 1985 مطالباً بحلول سريعة ووصل به إلى القول عام 1995، إن هناك حرباً قد أعلنت من طرف واحد ضد أوروبا والولايات المتحدة في غفلة عن معظم سكان البلدان الغربية.

دانيال بايبس

ويعد  مؤسس هذا المنتدى  دانيال بايبس،  من أبرز الشخصيات الأكاديمية المؤثرة في السياسة العالمية وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ من جامعة هارفارد ويتقن اللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية والعربية، و كانت أطروحته الجامعية حول الفيلسوف الغزالي، وبعد انتهاء الدراسة قصد مدينة القاهرة وأقام فيها مدة سنتين ليزيد من مهاراته اللغوية.

اهتم بمشاكل العالم الإسلامي وبشكل خاص بلدان الشرق الأوسط التي خصص لها الكثير من نشاطاته. و أتقن اللهجة العامية المصرية ونشر بها كتاب صدر عام 1983. وقد تخصص في فترة  تكوينه الأكاديمي في إسلام العصر الوسيط، ونشر في عام 1981 كتاباً تحت عنوان الجنود العبيد والإسلام، لكن في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران تحول اهتمامه إلى دراسة الإسلام المعاصر. كما قام بتدريس التاريخ في جامعة شيكاغو من 1978 حتى 1982 وانتقل بعدها للتدريس في جامعة هارفارد لمدة عامين.

وانتقل بعد ذلك للعمل في العديد من خزانات الفكر  وترأس خلال الفترة ما بين 1986-1993 معهد دراسة السياسة الخارجية في فيلادلفيا، وكان رئيس تحرير  مجلة أوربس. وفي عام 1990 أنشأ مشروعه الخاص من خلال تأسيس منتدى الشرق الأوسط. وفي عام 2003  سماه الرئيس جورج دبليو بوش عضواً في مجلس أمناء معهد السلام في الولايات المتحدة الأمر الذي جوبه بانتقادات بسبب مواقف بايبس المتطرفة من الإسلام الأمر الذي دفع المتحدث باسم البيت الأبيض للتصريح بأن الرئيس “لا يتفق مع نظرة بايبس إلى الإسلام”.

وكان منتدى الشرق الأوسط قد بادر منذ عام 2010 إلى إطلاق دعوة للتضييق على الأنروا معتمداً على التعريف المعتمد في الأمم المتحدة لتوصيف اللاجئ، وخلص إلى أن هذا التعريف لا ينطبق إلا على قرابة عشرين ألف فلسطيني  أجبروا على مغادرة فلسطين عام 1948 مع التلميح بأنه مقابل السبعمئة ألف فلسطيني الذين هجروا من فلسطين كان هناك أكثر من ثمانمئة ألف يهودي رحلوا من البلدان العربية، الأمر الذي يتضمن مغالطة مقصودة من خلال الربط بين قضيتين منفصلتين؛ لأن معظم يهود البلدان العربية رحلوا إلى “إسرائيل” تطبيقاً لبرنامج  أعدته ومولته الحركة الصهيونية ولم يكن للشعب الفلسطيني أي دور في ذلك.

وثمة موضوع آخر يركز عليه المنتدى وهو إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إعلان انتصار إسرائيل وفرض شروطها على الطرف الفلسطيني.

ففي الثاني من شهر كانون الأول الجاري جدد الباحث بايبس طرحه القديم المتعلق بإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي انطلاقاً من موقف عزيز على قلبه مفاده أن الصراع لن ينتهي إلا إذا أقر الفلسطينيون بهزيمتهم. ويستند بايبس في موقفه هذا إلى قراءة متحيزة للتاريخ، فهو يرى أن تاريخ كل الشعوب عرف عمليات استيلاء على أراضٍ، وتهجير، وتعديل الحدود القائمة بين الكيانات السياسية  المتنافسة حيث شهد العالم صعود إمبراطوريات عظمى ثم انحدارها وتفككها. وهو يرفض منطق الخطاب العاطفي الأخلاقي المستند إلى الدفاع عن الحقوق المتعارف عليها ويصوغ أفكاره بطريقة متماسكة حيث  يرى أن ميزان القوى يميل لصالح إسرائيل التي يجب عليها -من وجهة نظره-  إعلان انتصارها وفرضه على حماس وعلى السلطة الفلسطينية؛ لأن مسار تقديم التنازلات لم يؤدِّ إلى خفض مستوى العنف. وهو يرى أن  تعريف الانتصار يتضمن  فرض إرادة المنتصر على عدوه وإجباره على التخلي عن أهداف الحرب وفق التعاريف التي طرحها العديد من الفلاسفة ومن الاستراتيجيين، وهو أمر صاغه الجنرال جامس ماتيس سكرتير الدفاع في حكومة الولايات المتحدة في عبارة أن هدف الحرب يجب أن يكون هزيمة العدو، وأن الحرب لا تنتهي إلا إذا أقر العدو بانتهائها، وفي نظر  بايبس  ما يزال هذا مستبعداً على الرغم من أن ميزان القوى مختل بشكل هائل ضد الفلسطينيين المنقسمين سياسياً والمشتتين جغرافياً، والذين لم يتمكنوا حتى الآن من صياغة برنامج وطني يجمع أغلبية الفلسطينيين الذين يعيشون في ظروف متباينة. فثمة قسم يعيش تحت سلطة الاحتلال، في حين ينعم قسم ثانٍ بخيرات السلطة الفلسطينية العاجزة، وهناك قسم ثالث يعيش تحت حكم حركة حماس في غزة وصولاً إلى فلسطينيي الشتات الموزعين في كل العالم. والمشكلة في نظر بايبس تتعلق بالافتقاد إلى لغة تواصل مع القيادات الفلسطينية ابتداء من بديهية  تعريف المصطلحات السياسية  وما يترتب عنها من تداعيات خطيرة. فمفهوم حق العودة في نظر بايبس لا ينطبق سوى على عشرين ألف شخص تجاوزوا السبعين من العمر وبالتالي فهم لا يشكلون أي خطر حتى إن عادوا؛ لأنهم لن يجدوا أي أثر لبيوتهم ومزارعهم حيث قامت إسرائيل بتدمير أكثر من أربعمئة وخمسين بلدة، واقتلعت أشجار الزيتون، وغيرت الغطاء النباتي عبر إقامة محميات بيئية زرعت بأشجار تم استيرادها بهدف محو كل أثر للفلسطينيين. كما يوجد اختلاف عميق حول معنى الانتصار، فبعد كل مجابهة يعلن الطرف الفلسطيني انتصاره. بالمقابل يرى بايبس أن الحكومات الإسرائيلية تحاشت منذ توقيع اتفاقيات أوسلو 1993 الحديث عن تحقيق النصر وتحولت إلى هدف لانتقادات دولية ولدعوات مقاطعة البضائع المنتجة في الأراضي التي تعتبرها الأمم المتحدة محتلة، وهذا ينطبق فقط على الأراضي التي تم الاستيلاء عليها إثر حرب 1967.

بايبس المناصر لإسرائيل

يتبنى بايبس بوضوح مفاهيم أقصى اليمين الإسرائيلي ممثلاً بفلاديمر جابوتنسكي الذي ساهم في تشكيل الفيلق اليهودي خلال الحرب العالمية الأولى وانضم إلى قيادة الحركة الصهيونية عام 1920، لكنه انشق عنها عام 1923 ليؤسس حزبه الخاص. رأى جابوتنسكي أن مشروع إقامة ملاذ وطني لليهود في أرض فلسطين وفق بنود إعلان بلفور لا يعدو أن يكون ضرباً من الخيال تبنته الحركة الصهيونية الرسمية، في حين كان الحل في نظره هو إقامة دولة يهودية عصرية على ضفتي نهر الأردن وطرد السكان إلى البلدان العربية المجاورة.

ويرى بايبس أن النقاش الدائر حالياً في إسرائيل حول تحقيق النصر يمثل خطوة إلى الأمام، وهو ينادي بضرورة تحقيق نصر عسكري حاسم  من خلال استخدام كل طاقة الآلة العسكرية الإسرائيلية طالما أن الظروف الإقليمية والدولية تسمح بذلك، وهو قد صرح مراراً أن العرب لا يشكلون أي خطر جدي، وأن الخطر الوحيد الذي يمكن أن يهدد إسرائيل هو انتشار اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة. وعند مراجعة نشاط هذا المنتدى نجد أن معظم الأفكار التي طرحها تحولت فعلاً إلى سياسات تبنتها حكومات الولايات المتحدة، وبالتالي لا بد من التعامل مع ما يطرحه المنتدى بأكبر قدر من الجدية حيث صار من الواضح أن هناك خطة متكاملة لإعادة تشكيل منطقة شرق البحر المتوسط باستخدام كل الوسائل المتاحة.