دراساتصحيفة البعث

القديم الجديد في الأمن القومي العربي

 

د. سليم بركات
مع أن موضوع الأمن القومي العربي يعدّ من المواضيع الحديثة نسبياً، إلا أن الموضوع الذي يدور حوله الحديث من أهم المواضيع في هذا الاتجاه، وهو أمن البحر الأحمر الذي أكدت عليه قمة المجلس الأعلى لقادة دول مجلس التعاون الخليجي المنعقدة في السعودية بتاريخ 9/12/2018، ولاسيما في هذه المرحلة التي تشهد تحالفات مشبوهة تحتضن “إسرائيل”، وتصعد في مواجهة إيران، أكان ذلك على مستوى الساحة العربية، أم على مستوى المنطقة، تحالفات تأتي في إطار التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب قواها البحرية المحتشدة في الخليج العربي، في مواجهة إيران.
لإلقاء الضوء على هذا الموضوع لابد أولاً من تحديد مفهوم الأمن القومي العربي على أنه يعني مجموعة الإجراءات التي يمكن أن تتخذ للمحافظة على أهداف وكيان وأمان المنطقة العربية في الحاضر والمستقبل، مع مراعاة الإمكانيات العربية المتاحة، وتطورها في استغلال المصادر الذاتية، وجعلها الأساس في بناء القدرة، وإدراك المتغيرات التي تحدث على صعيد داخل وخارج الوطن العربي، فالأمن القومي العربي يفترض وجود سلطات مركزية لها القدرة على اتخاذ القرارات الكفيلة بحماية وحدة الأرض وأمنها على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن الواضح أن الأمن القومي العربي يفتقر إلى وجود هذه المعطيات، ولاسيما في الحالة الراهنة نظراً لحالة التجزئة والتشتت التي تشير إلى تناقض المواقف العربية لإيجاد مثل هذا الأمن، بل تجده ضد مصالحها في الكثير من الأحيان.

البحر الأحمر
الأمن القومي العربي في البحر الأحمر (بحر العرب) لا يشذ عن هذه القاعدة، كون هذا البحر إحدى أبرز المناطق الاستراتيجية في العالم المعاصر التي لها تأثيرها الدائم والمستمر في العلاقات الدولية، والمتمكنة من أن تلعب دوراً حاسماً ورئيسياً في توازن القوى العالمية سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، بمعنى أنه توجد مجموعة من العوامل المتضافرة التي تعطي منطقة البحر الأحمر أهميتها الاستراتيجية، منها البحر الأحمر هو همزة الوصل بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، عن طريق البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس وباب المندب، ومنها البحر الأحمر هو أحد الممرات الرئيسية للملاحة والتجارة الدولية بين أوروبا الغربية ودول آسيا وأفريقيا، ومنها البحر الأحمر هو الطريق الرئيسي الذي يمر من خلاله نفط منطقة الخليج العربي إلى الأسواق الاستهلاكية في أوروبا الغربية، ومنها البحر الأحمر هو إحدى الطرق الرئيسية لأساطيل الدول العظمى العسكرية، كما هو منطقة اتصال رئيسية بين القواعد العسكرية لهذه القوى المنتشرة في أماكن متعددة من العالم، ومنها البحر الأحمر تطل على سواحله، وتحيط به مع مجموعة من القوى الإقليمية ذات المصالح والأهداف والاستراتيجيات المتناقضة في أغلب الأحيان.
من هذا المنطلق يمكن تحديد مفهوم الأمن القومي العربي في البحر الأحمر على أنه مقتصر في المرحلة الراهنة وبالدرجة الأولى على سياسة الدول العظمى، ورؤيتها لمصالحها وأهدافها، والتي تدخل عادة في علاقات يغلب عليها طابع الصراع والتنافس، ولاسيما في المجالات العسكرية التي تطغى على غيرها من مجالات أخرى، وتأتي في الطليعة القوات البحرية، الأداة الفعالة لتحقيق الأمن القومي لكل من هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، وتعكس طبيعة التنافس الأمريكي الروسي في هذا البحر محاولة المحافظة على نظام معين لتوازن القوى على أساس التواجد العسكري من ناحية، وعلى أساس اكتساب ودّ وصداقة الدول المطلة على البحر الأحمر من ناحية أخرى.
تنطلق الاستراتيجية الأمريكية في منطقة البحر الأحمر عبر ثلاثة أهداف: الأول التأكيد على عدم وقوع منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرة أية قوة معادية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في حلف الأطلسي وحلفائها في المنطقة، والثاني تأمين وتأكيد بقاء واستمرارية الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، مع دعم مساعيه وجهوده للسيطرة على البحر الأحمر ومضائقه الاستراتيجية، والثالث تأمين تدفق النفط من منطقة الشرق الأوسط عبر الخليج العربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين، أما فيما يخص الاستراتيجية الروسية في البحر الأحمر فتأتي عبر مواجهة النفوذ الأمريكي في العالم النامي، وهي لا تقتصر فقط على المواجهة العسكرية، بل تشمل أيضاً الجوانب السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية، لتفويت الفرصة على الولايات المتحدة الأمريكية، وعدم ترك المجال لها وحدها، ويجب ألا يغيب عن الذاكرة أن أفريقيا والوطن العربي كانا بدورهما ساحة للتنافس والصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي منذ اندلاع الحرب الباردة مع نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن المنصرم، وقد أدى هذا الصراع إلى نتائج تأتي في طليعتها زيادة احتمالات التنافس والصراع في القرن الأفريقي بين القوتين، ما دفع بالدول المطلة على البحر الأحمر إلى تبني سياسات ودية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية لكسب تأييدها في مواجهة الدول الثورية المدعمة من قبل الاتحاد السوفييتي السابق، ولاسيما الصومال وأثيوبيا واليمن الجنوبي في سبعينيات القرن المنصرم، زد على ذلك فرض النفوذ الروسي على الخطوط البحرية حول أفريقيا والوطن العربي لتقويض ومحاربة المصالح الغربية في البحر الأحمر، ما يدعم الوضع العسكري الروسي في المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، والخليج العربي، وهذا ما حدث أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي جعلت الاتحاد السوفييتي السابق يرسل قواته البحرية عبر البحر الأحمر لدعم تواجده في الخليج العربي في مواجهة التواجد الأمريكي، الأمر الذي دفع الغرب الامبريالي إلى تبني استراتيجية مضادة للاتحاد السوفييتي السابق قوامها تقديم الولايات المتحدة الأمريكية ومن يغرد في فلكها المساعدات الاقتصادية والمالية للدول الأفريقية التي هي بأمس الحاجة إليها من أجل كسب ودّها، ومن أجل تقويض نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، كل ذلك يدفع إلى القول بأن مصالح القوى العظمى هي المصالح الوحيدة البارزة في أمن البحر الأحمر، بما فيها دول أوروبا الغربية التي لها مصالح اقتصادية وسياسية من أجل دعم العلاقات مع دول المنطقة، وتعد فرنسا بعد الولايات المتحدة الأمريكية في طليعة هذه الدول التي تقدم المساعدات الاقتصادية والعسكرية، ويرجع اهتمام فرنسا الخاص بالدول الأفريقية إلى الروابط التاريخية والثقافية التي يعود عهدها إلى فترة الاستعمار الفرنسي في أفريقيا.

استراتيجية عربية
إن الحديث عن استراتيجية عربية في البحر الأحمر لا يعني تحليل استراتيجية موجودة بالفعل من حيث أبعادها ومراميها، أساليبها ووسائلها، عناصر قوتها، وأوجه قصورها، لأن ذلك غير متاح، ولا ميسر، وهو من حيث الواقع والفعل يمثّل الطابع النظري التجريدي التوصيفي، لأن المعضلة الحقيقية التي يمر بها الأمن القومي العربي، في مناطق محددة مثل البحر الأحمر بصفة خاصة، والتي تتحدد من خلال الاهتمامات الرئيسية بقضايا الأمن القومي العربي، تكاد تختصر في مراكز صنع القرار على مستوى الوطن العربي، وبعضها يتطلب الاتفاق حول الحد الأدنى من مفهوم الأمن القومي العربي في البحر الأحمر، وتحديد الأساليب التي يمكن انتهاجها لحمايته، إلا أن واقع السياسة العربية فيما يخص الأمن القومي العربي يختلف تماماً عما يجب أن يكون، لأن الدول العربية تفتقد إلى أدنى حدود المنظور الاستراتيجي الموحد لمعالجة قضايا الأمن القومي العربي، سواء أكان ذلك في منطقة البحر الأحمر، أم في غيرها من المناطق العربية الأخرى، والسبب أن الأحداث الأخيرة في منطقة الخليج العربي تكشف بشكل صارخ عن سيطرة مفاهيم إقليمية للأمن القومي العربي تغلب عليها مفاهيم التبعية، وتبيّن بجلاء تعدد استراتيجيات تحقيق هذا الأمن وعدم توافقها، أما بالنسبة للدول العربية المطلة على البحر الأحمر فالواضح أنها تنطلق من تصورات مختلفة لمفهوم الأمن القومي، وتمارس استراتيجيات متناقضة لتحقيق أهدافها ومصالحها، وهذا ما هو واضح من اختلاف وتعارض وتناقض ردود أفعال هذه الدول ومواقفها من أحداث الخليج العربي الأخيرة، والتي تعكس بجلاء الهوة الكبيرة بين التصورات والتحليلات النظرية المجردة لمفهوم الأمن القومي العربي، واستراتيجيات تحقيقه في المنطقة العربية ككل، أو كجزء منها، وواقع الممارسة الفعلية لبعض النظم العربية التي تعكس عدم وضوح التفكير الاستراتيجي لديها نظراً لاختلاف ارتباطاتها ومصالحها واهتماماتها، والتي تدور في إطار التبعية والقطرية الضيقة، ما ينعكس بصورة سلبية على استراتيجيات وأهداف ومتطلبات الأمن القومي العربي.
بقي أن نقول: ما هو دور الدول العربية: مصر، السودان، جيبوتي، الأردن، اليمن، السعودية التي تطل على البحر الأحمر، إضافة إلى “إسرائيل” واريتريا التي أدارت ظهرها للعرب في تأمين الأمن القومي العربي في البحر الأحمر باعتباره بحراً عربياً؟ وبالتالي ما هو دور “الناتو العربي” قيد التشكيل كأداة في حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية؟ ومن ثم ما هو دوره في الربط بين الأسطول السادس الأمريكي المتواجد في البحر الأبيض المتوسط والخامس الأمريكي في الخليج العربي الموجود قبالة البحرين، والسابع الكائن في المحيط الهندي؟ وبالتالي هل يكفي الحديث عن أمن البحر الأحمر من خلال القرصنة الصومالية بمعزل عما يجري في ميناء عدن، وباب المندب، وقناة السويس، وخليج العقبة دون الحديث عن ميناء ايلات “الإسرائيلي”؟ والأهم من كل هذا هل سيبقى البحر الأحمر في هذا الخضم على جدول أعمال العالم كبحر عربي بمعزل عن “إسرائيل”، أم ستصبح “إسرائيل” شريكاً في هذا التحالف لتأمين أمن البحر الأحمر؟.. إنه الاختراق الكبير للأمن القومي العربي، ولأمن العالم برمته، أعدّ له بمخطط امبريالي صهيوني رجعي، ولنا كل الثقة بأن مياه البحر الأحمر ستكذّب الغطّاس.