دراساتصحيفة البعث

الجمهورية الفرنسية الخامسة.. تغرق من دون قارب

ترجمة: عناية ناصر

عن موقع بزنس ستاندرد 22/12/2018

تمّت مقارنة ثورة السترات الصفراء في فرنسا بالاضطرابات التي وقعت في أيار 1968، لكن هذا الأمر مغلوط. فقد أطلق على أيار 1968 لقب “تحرك البرجوازية”، وهو نتاج من السخط الناجم عن ارتفاع الثراء. حدث ذلك في أوروبا الغربية، حيث كانت الديمقراطية الليبرالية لا تزال آمنة بشكل عام، على أساس تحالفات الحرب الباردة الصلبة وجيل من الازدهار المتزايد لجميع الطبقات. لكن الجمهورية الخامسة لديغول استمرت ببطء، فيما تبدو حركة “السترات الصفراء” أشبه ببداية حادثة موت تلك الجمهورية.

قد يرى مؤرخو المستقبل أن فشل إيمانويل ماكرون أكثر أهمية من انتخاب دونالد ترامب كمعلم في تراجع النظام الليبرالي الغربي، لأنه لا يوجد في فرنسا معارضة جديّة من الوسط أو اليسار البديل. لقد فاز ماكرون من خلال استيعاب البقايا المتبقية من جميع الأحزاب في وسط اليسار ويمين الوسط، وحتى مع ذلك فاز فقط بنسبة 24 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في العام الماضي. بالنسبة لليبراليين، هو الخيار الوحيد بكل معنى الكلمة، إذا هُزِم في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2022، وإذا استمرت الحالة الراهنة اليوم، فإن الاحتمال الغالب هو أن الرئيس الفرنسي القادم ستكون مارين لوبن زعيمة الجبهة الوطنية (أو “التجمع الوطني” كما يُطلق على نفسه الآن).

مع هذا، ستنتقل القومية المحافظة إلى قلب السياسة الأوروبية، وفي حال بقي الاتحاد الأوروبي في أيّ شكل يشبه شكله الحالي فسيزول من الوجود. علاوة على ذلك، وعند هذه النقطة، ستصبح المعارضة الفرنسية الرئيسية الحركة اليسارية الماركسية (ولكن أيضاً المناهضة للاتحاد الأوروبي) أو ما يطلق عليه جان لوك ميلانشون “فرنسا غير المطيعة”.

إذا أصبح هذا هو الخيار الحقيقي الوحيد المتبقي للناخبين الفرنسيين، فإن الديمقراطية الليبرالية سوف تكون ميتة والديمقراطية من أي نوع قد لا تستمر لفترة أطول. لا يمكن للديمقراطيات أن تستمر طويلاً إذا اختلفت القوى السياسية الرئيسية في البلاد بشكل أساسي حول طبيعة وهوية الدولة.

كيف ذهب ماكرون في الاتجاه الخاطئ؟ لقد ألقي باللوم عليه لأسباب وجيهة نتيجة مجموعة من الأخطاء الشخصية، ولكن من الضروري أن ندرك أن إخفاقه كان أيضاً تعبيراً عن إخفاق النخبة التكنوقراطية الفرنسية التي رعته، وتجسّد المدرسة الوطنية للإدارة التي تخرج منها. إن ماكرون، المصرفي الاستثماري السابق، هو في الأساس، تكنوقراط “من الطريق  الثالث” على شاكلة توني بلير أو بيل كلينتون محولاً نموذجهما إلى نسخة معتدلة نسبياً فقط من اقتصاديات السوق الحرة “توافق واشنطن”، وكان فقط الإفلاس التام مصير الأحزاب السياسية الفرنسية الرئيسية التي سمحت له أن يظهر لفترة من الوقت ليكون أي شيء جديد أو مختلف.

هذا لا يعني أن بعض إصلاحات ماكرون ليست ضرورية. عندما يتعلق الأمر بالدعم الجماهيري للسترات الصفراء، من الصعب أن يكون هناك تعاطف كبير مع الطلاب الذين يطلبون الدخول التلقائي للجامعات بغض النظر عن درجاتهم، والبيروقراطيين والعاملين الذين يعاملون بشكل متعسف في مؤسسات الدولة كحق من حقوق الإنسان، وسائقي السيارات الذين يرفضون حتى التضحية للمساعدة في منع تغير المناخ.

لكن في حملته الانتخابية، بدا أن ماكرون يدرك أن السبيل الوحيد للحصول على إجراءات التقشف مع جمهور فرنسي مشاكس ومتمرّد، هو من خلال نهج “عادل” يُجبر فيه الأغنياء على تقديم التضحيات. وبدلاً من ذلك، فإن الأثرياء والشركات قد حصلوا على تخفيضات ضريبية، وكان عبء التقشف بأكمله قد وقع على الفقراء والطبقات المتوسطة. بعبارة أخرى، نسخة أقسى من السياسات التي اتبعتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة خلال العقد الماضي، والتي دفعت بدعم اليسار واليمين المتطرفين. ما الذي جعل ماكرون يعتقد أنه كان خليطاً حيوياً من الناحية السياسية، بعد عشر سنوات من الركود في عام 2008؟ لكن  فشله لم يسمح فقط ببروز ميلينشون، بل طال التجمع الوطني الذي يصوّر نفسه كأصوات حقيقية للتضامن الاجتماعي والعدالة.

ولجعل الأمور أسوأ، فقد شوهدت إجراءات التقشف الخاصة بـ ماكرون، وربما ذلك صحيح، كجزء من الثمن الذي كان عليه دفعه للحكومة الألمانية مقابل قبول ألماني محتمل في المستقبل لميزانية منطقة اليورو، والتي من المفترض أن تخضع لسيطرة مشتركة ألمانية فرنسية. لم يكن من المحتمل أبداً أن توافق أي حكومة ألمانية على هذا، ويبدو أن غروب عهد المستشارة الألمانية ميركل والأحزاب الرئيسية في ألمانيا قد قتل الفكرة بالكامل. علاوة على ذلك، بعد تجربة السنوات العشر الماضية، وفرض الاتحاد الأوروبي (مدفوعاً بألمانيا) التقشف الشرس على اليونان وإسبانيا، فإن فكرة اتحاد أوروبي أقوى على الاقتصادات الوطنية من غير المرجح أن يحظى بشعبية في فرنسا أو أي مكان آخر، خارج صفوف النخب والتكنوقراطية.

إن غرق هوية الاتحاد الأوروبي ورسالته في مشروع ليبرالي دولي أوسع لم ينجح إلا في زيادة الغرور الوطني المتعلق بالعظمة والغرور الفكري حول كون أوروبا “مهد حقوق الإنسان”. وللحفاظ على دعم التقشف، احتاج ماكرون لمخاطبة القومية الفرنسية وتبني سياسات رمزية وعملية لإقناع الجماهير بأن الأثرياء كانوا يعانون أيضاً من أجل مصلحة فرنسا، يجب أن تكون الأمور الرمزية أسهل.