الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

وصيّة شاعر

عبد الكريم النّاعم

ليست وصيّة لوارث دار، أو أيّ ملْك آخر، إنّها وصيّة شاعر لمن يريد أن يستمرّ على دروب الشعر، ونحن هنا نشترط أن يكون (شاعراً)، لا على طريقة الكثير الكثير ممّا يُزجّ على أنّه شعر، إذ يبدو أنّ الخراب حين يحلّ بمكان فإنّه يصيب حتى الثقافة بعامّة، ومنها الشعر، فيصبح الصعود إلى المنابر سهلا، وبعد أن كان لا يتطلّع إلى ذلك إلاّ الضليعون المتمكّنون، يصير صعوده من أسهل الأمور، فجهْل من هنا بقواعد الأدب والثقافة، وتمْشية حال من هناك في المراكز الإدارية  المسؤولة التي هي ليست أحسن حالا، من هناك، فإذا به/ها يُرحَب بالمبتدئين، الفطير الذي لا يَعِد بأيّ نضوج، وتُنشر الأسماء في الصحافة في تغطية ليست بذات بال، وقد يكون محظوظاً فيصوَّر تلفزيونيّا لصالح أحد البرامج التلفزيونيّة المسلوقة على طريقة (لحِّق)، فما يُصدّق أو تصدّق ما رأته العين، فإذا هو أهمّ شعراء زمنه كما يرى نفسه، وقد يشهد له العديدون من أمثاله في خلواتهم!

الشعر الذي قيل فيه إنّه ملك الملوك يصل إلى هذه الدرجة!

هنا لابدّ من التعرّض لفكرة أنّ الأزمنة لم تعد أزمنة شعر، بل هي أزمنة منثورة، أو بالأحرى هو زمن الرّواية، فهذا محض هراء، فاليد لا تحلّ محلّ العين، وما من حاسّة هي بديل لحاسّة أخرى، بل جسد واحد متكامل، مخلوق في أحْسن تقويم. تروي كتب الأدب أنّ أبا تمّام الشاعر الشهير قد أوصى الشاعر البحتريّ، وكان في بداية صعوده الشعري فقال له:

“يا أبا عُبادة، تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صِفْر من الغموم، واعلم أنّ العادة جرتْ في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفْظه في وقت السّحَر، وذلك أنّ النفس قد أخذتْ حظّها من الرّاحة، وقِسْطها من النّوم، وإنْ أردتَ التشبيب فاجعل اللفظ رشيقا، والمعنى رقيقا، وأكثرْ من بيان الصبابة، وتَوَجُّع الكآبة، وقلَق الأشواق، ولوعة الفراق…” إلى أن يقول: “وإيّاك أن تشين شعرك بالألفاظ الرّديئة، ولتكنْ كأنّك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجساد، وإذا عارضك الضجر فأرحْ نفسك، ولا تعمل شعرك إلاّ وأنت فارغ القلب، واجعلْ شهوتك لقول الشعر الذّريعة إلى حُسن نظمه، فإنّ الشهوة نِعْم المعين، وجُملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من الشعراء الماضين، فما استحسن العلماء فاقصدْه، وما تركوه فاجْتنبْه..”.

تُرى هل يستفيد مستفيد من هذه الوصيّة، الغائصة حتى الأعماق، معرفةً، وتجربة؟!.

من المحزن أنّ عددا لم يعد يُستهان به من الذين وجدوا أنفسهم يُدعوْن إلى الأمسيات، يريد أن يكون هو نفسه بدء تاريخ الأدب، فما هو بحاجة لكلّ الخزائن التي حفظت لنا دررا لا تُقدَّر بثمن، ولست أدعو إلى التوقّف عندها، بل لابدّ من معرفة ما فيها، ومن ثمّ البحث عن تحقيق إضافات نوعيّة لا يُنكرها صاحب ذوق، ولا ناقد مُنصف.

تُرى إذا كنّا ننتظر البدء بإعمار خراب الدمار الصهيوأعرابي، فهل ثمّة إعمار في جوانب الشعر؟!..

aaalnaem@gmail.com