تحقيقاتصحيفة البعث

رغــــــم الحــــــرب منظومة التعليم العالي تتجاوز تحدي نقص الكوادر وتضمن استمرار الالتزام بمعايير الجودة

الحرب الظالمة التي عانت منها سورية على مدى أكثر من سبع سنوات أثرت على مختلف نواحي الحياة والقطاعات، وكان قطاع التعليم من أكثر القطاعات تضرراً في الحرب لما لهذا القطاع من صلة مباشرة وأهمية وحساسية كبيرة تركت آثارها السلبية على كل بيت وعائلة  ومن المعلوم أن تقدم وتطور أي مجتمع مرهون بالمستوى التعليمي الذي يوليه هذا المجتمع للتعليم، وعلى مختلف مستوياته، وما يحسب للوزارات والمؤسسات التعليمية في سورية في زمن الحرب، القدرة الكبيرة على مواجهة أقسى الظروف، ومحاولة التغلب على الصعوبات التي تواجه العملية التعليمية بأقل الإمكانيات في ظل حصار وأوضاع غير إنسانية فرضت ظرفاً استثنائياً، وأجبرت الكثير من الكليات في بعض المحافظات على التوقف عن متابعة العملية التعليمية فيها، سواء في حلب، أو دير الزور، وسواهما، وكان من أبرز التحديات التي واجهت وزارة التعليم العالي النقص المفاجىء في الكوادر التعليمية التي أصابها، خاصة في السنوات الثلاث الأولى للحرب، ما أحدث صدمة في هذا القطاع أثرت على جودة التعليم في مختلف الكليات والأقسام، خاصة التطبيقية منها،  بسبب غياب عدد من أساتذة هذه الكليات الذين غادروا البلاد.

بسبب الحرب

يعتبر الصمود  اليوم من المهارات في التعليم المعاصر المتجدد، هذا ما أكده الدكتور حليم أسمر الأستاذ في كلية التربية بجامعة حلب الذي تحدث عن معاناة الجميع من دون استثناء، سواء الطلاب، أو الأساتذة بسبب الحرب، موضحاً أن منظومة التعليم في أي بلد هي عبارة عن حلقات متسلسلة ابتداء من رياض الأطفال إلى التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي، وصولاً إلى التعليم الجامعي، وهذه الحلقات متداخلة ومترابطة، ومدخلات أية حلقة هي مخرجات لحلقة أعلى وأشمل وأكثر تخصصاً، والحرب أضرّت قطاعات كثيرة، ومنها بطبيعة الحال قطاع التعليم العالي، حيث أثرت على الكثير من الجامعات من خلال مدخلات الجامعات كالأبنية الموجودة في المحافظات، سواء كانت في مركز المحافظة، أو في المدن الرئيسة التي تتبع المحافظة ككليات أو فروع من حيث تعرّض بعضها للهدم مثلاً، أما فيما يخص الكادر التدريسي فكان هناك نقص سببه الاستقالات الكثيرة أحياناً، أو حالات الندب من جامعة لجامعة، أو حالات الموت، أو الاستشهاد، أو مغادرة البلاد، ولكن يوضح الدكتور أسمر بأنه حتى في زمن الحرب عاد الكثير من أساتذة الجامعات  إلى كلياتهم، وعاودوا التدريس بكل جدارة، كما كانوا من قبل متمسكين بالتعليم الوطني، وهذا الأمر على غاية من الأهمية بأن نبقى متمسكين بالجامعات الحكومية كمعظم دول العالم، ودعم الجامعات الحكومية واجب  على كافة القطاعات، سواء كانت عامة، أو خاصة، ولا نخفي سراً عندما نقول إن التعليم العالي تضرر من ناحية البحث العلمي، سواء من ناحية الإيفاد الخارجي، أو دورات التقوية، أو المؤتمرات شبه المتوقفة تقريباً بسبب قطع معظم الدول علاقاتها معنا، فعادة العلاقات السياسية تنسحب على العلاقات الثقافية، وحتى على العلاقات الإنسانية، لذلك السلام في سورية، وتوقف الحرب بشكل كامل، وبدء الدورة الاقتصادية والزراعية من جديد، كفيل أو عامل اطمئنان لنا جميعاً من شأنه أن يزيد أو يعيد حيوية التعليم العالي، ويطمئن الجميع بأنه يمكن أن يكون لدينا بحث علمي، واهتمام بالتخصص والاختصاص.

أما بالنسبة للآلية التي اتخذتها الوزارة لتعويض النقص الحاصل في أعداد الهيئة التدريسية، فقد أوضحت الدكتورة سحر الفاهوم، معاون وزير التعليم العالي للشؤون العلمية، أن هناك نقصاً في أعضاء الهيئة التدريسية، لكنه لم يكن بالحد الذي يظنه الجميع، مضيفة: نسبة النقص الحاصل بأعضاء الهيئة التدريسية لم تتجاوز العشرين بالمئة، والوزارة عادة تسمح بغياب هذه النسبة أثناء الإعارة، أو منح الإجازات بلا راتب، ما يعني أننا لم نتجاوز الحد الأعلى المسموح به، لكن المؤسف أن هذا التوزع بغياب أعضاء الهيئة التدريسية لم يكن عادلاً، ولم يكن نفسه في كل الكليات، فهو يختلف من كلية إلى أخرى، أو من مكان إلى آخر، فعلى سبيل المثال نسبة النقص الأكبر كانت في حلب بسبب الوضع هناك، ما أدى لهجرة بعض أساتذة الجامعات، أما بالنسبة لجامعة تشرين فلم يكن هناك نقص، بينما في جامعة دمشق كان الغياب فيها بالحد الطبيعي،  وهذا أيضاً ما تحدثت عنه الدكتورة فاتنة ياسين الشعال عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة دمشق، موضحة أن العملية التعليمية لم تتوقف، وأن الكلية لم تعان من نقص في الكوادر التعليمية، وكان الغياب ضمن الحد الطبيعي جداً، مضيفة: من عانى من هذه المشكلة أكثر هو الكليات الطبية والتطبيقية، وهذا ما أكدته بالمقابل الدكتورة الفاهوم التي أوضحت أن الضغط الكبير والزيادة بعدد الطلاب ولأسباب متعددة جعل المتضرر الأكبر من هذه المشكلة هو الكليات التطبيقية التي عانت  أكثر من غيرها من نقص الكوادر، وهذا الأمر لا يعود فقط إلى الهجرة خارج سورية، وإنما أيضاً إلى اضطرار هذه الكوادر لتغطية حاجات الجامعات الخاصة التي هي كغيرها لم تستطع أن تؤمن كوادر من الخارج بسبب الحرب والوضع السياسي، فاستعانت بالكوادر الموجودة في الجامعات الحكومية، لذلك قامت الوزارة باتخاذ عدة إجراءات، ووضع معايير، بحيث تسمح بإعارة الأستاذ الجامعي للتدريس في الجامعات الخاصة بشرط أن يغطي نصابه في الجامعة الحكومية، وهنا يتمكن الأستاذ من تقديم الفائدة وفي الوقت نفسه الاستفادة مادياً، كما سمحت الوزارة للجامعات الخاصة أن يدرس فيها حملة الماجستير ذوو الخبرة ضمن ساعات تدريسية محددة للنظري، وبنسبة محددة من عدد الأساتذة من أجل أن نتمكن من تجاوز حاجة الجامعات الخاصة، مضيفة بأن المشكلة الأكبر التي واجهتها الجامعات الحكومية لم تكن في نقص أعداد الكوادر التدريسية، بل في زيادة الطلاب في بعض الاختصاصات، فالأمر الذي حصل في جامعة دمشق وتشرين هو تدفق طلاب حلب ودير الزور، ما أوحى ظاهرياً بأن هناك نقصاً في أعداد الهيئة التدريسية، وأدى لزيادة العبء على الأستاذ الجامعي، لذلك قامت الوزارة بالإعلان عن مسابقة لتعيين أساتذة جامعيين لحوالي 1800أستاذ جامعي، تم قبول حوالي 1400 أستاذ لم يتم تعيينهم جميعاً في الوقت الحالي، وهو يعتبر أكبر إعلان تم حتى الآن في تاريخ الوزارة، وهذا ما سنلمس نتائجه تباعاً، حيث تم تعيين حوالي 400 أستاذ، وطبعاً هذا الإعلان لم يلب كثيراً حاجة الوزارة من ناحية الكليات الطبية، لذلك سيكون هناك إعلان لاحق لسد الحاجات.

تأثير الحرب على جودة التعليم

الدكتورة ميسون دشاش، المدير العام لمركز القياس والتقويم في التعليم العالي، تحدثت في عدة نقاط مهمة فيما يخص جودة التعليم، كان أبرزها أن الانخفاض الذي شهدناه مع بداية الحرب في أعداد الهيئة التدريسية، والذي أثر على جودة العملية التعليمية، لكنه لم يؤثر على استمرارها،  جعل الأساتذة الجامعيين مثقلين بالأعباء التدريسية، ما اضطر الأساتذة الجامعيين إلى أن يقوموا بإعطاء الدروس على حساب عاملين أساسيين هما من ضمن مهامهم الأساسية كأساتذة جامعة هما: “جانب تدريسي  أكاديمي،  وجانب بحثي”، وعامل آخر هو النشاطات وربط الجامعة بالمجتمع، وهنا عامل الوقت لعب دوراً سلبياً بعدم السماح للأستاذ بأن يقوم بأية جوانب بحثية، خاصة أن عامل الأمان لم يكن متوفراً، إضافة للعامل الاقتصادي، وصعوبة الحياة المعيشية، والنقطة الأخرى المهمة هي تدهور جودة العملية التعليمية بسبب النقص في بعض الاختصاصات الدقيقة التي اضطرت أساتذة بالاختصاص العام ليدرسوا اختصاصاً دقيقاً، ما سيجعل نسبة المعلومة أو جودتها أقل، وهذا ما تم لمسه مباشرة بكليات العمارة، والطب البشري، فمثلاً عند الجراحة العامة أو الجراحة القلبية اضطر أستاذ الجراحة العامة ليدرس الجراحة القلبية، ونحن هنا كمركز القياس والتقويم تضررنا كثيراً من هذا الأمر، فنسبة تجاوب الأساتذة كانت قبل الحرب في الامتحانات الوطنية التي يشرف عليها المركز، وقياس مخرجات التعليم العالي كان ضمن مديرية التقويم والاعتماد، وضمن وزارة التعليم العالي كانت نسبة تجاوب الأساتذة كبيرة جداً، اليوم الطبيب اختصاصي العناية المشددة، أو اختصاصي قلبية أطفال أصبح هو الوحيد الموجود بمشفى الأطفال الذي يخدم كل سورية، وهذا ما جعله مثقلاً بالأعباء الخدمية، إضافة لأعباء أخرى، لأن الطبيب لديه إضافة للجانب الأكاديمي والبحثي جانب خدمي  في المشافي التعليمية، فأصبح الطبيب هو نفسه الأستاذ الجامعي، ويقوم بدور خدمي أيضاً، وهو مثقل بالأعباء التدريسية، ما أثر على نسبة تجاوب الأساتذة مع المركز، مضيفة بأن هناك أمراً آخر مهماً جداً هو موضوع اختزال المناهج، فعندما يكون هناك نقص بالكوادر، هذا الأمر سيؤدي إلى عدم تدريس بعض المواد في المرحلة الجامعية الأولى، وسيتم تدريسها للطلاب في الدراسات العليا، وهذا يعني أن هذه المعلومات الأساسية التي يجب ألا يتخرج الطالب إلا إذا أخذها في المرحلة الجامعية الأولى يحرم منها بسبب اختزال بالمنهاج لعدم وجود أساتذة تغطي هذا النقص إلا إذا قام الطالب بنفسه بتعميق اختصاصه، ودخل بمرحلة الدراسات العليا، وفي كل دول العالم تكون هذه المعلومات مهارات أساسية، وهذا ما لمسناه في كلية العمارة، حيث تم اختزال المناهج، فمثلاً تصميم المشافي لا يدرس في كل الجامعات السورية، الأمر نفسه لتصميم الحدائق أيضاً، يتم تخريج طلاب بالهندسة المعلوماتية لم يحصلوا على مهارات أساسية نتيجة هذا النقص في الكادر التدريسي.

خلال الأزمات

تشير الدكتورة ميسون  دشاش إلى أن الواقع التعليمي في زمن الحروب حكماً يختلف، فلا يمكن أن نغفل عدد الساعات التدريسية التي تقلصت، ولا عدد الجامعات التي أيضاً تقلصت، والوضع اقتصادي، فنحن كنا  قبل الحرب نشارك بالمكتبات الالكترونية العالمية، لذلك هذا كله سيؤثر بالتأكيد على جودة العملية التعليمية والبحثية، من هنا لا يجب أن   نكون مجحفين بحق جامعاتنا، مضيفة بأن هناك مثلثاً استراتيجياً لأية دولة تدخل في أزمة وتخرج منها يجب أن تعمل عليه، يمر بثلاث مراحل هي أولاً  تثبيت العملية التعليمية، ومن ثم المرحلة الإنتاجية، وأخيراً مرحلة الإنجاز، والوزارة ثبتت العملية التعليمية، أما ما يخص نسبة الإنجاز فتم تخريج الطلاب، ولكن الجودة تأثرت قليلاً، وإذا أخذنا رأس الهرم ألا وهو الإنتاجية “الإنجاز الأكاديمي”، سنرى أننا قمنا بالتثبيت والإنتاجية التي تتمثّل  بتخريج منتجات لنصل إلى الإنجاز الأكاديمي، لذلك بتنا اليوم قادرين على أن نفكر بالترتيب العالمي للجامعات السورية، الأمر الذي لم يكن ممكناً القيام به منذ ثلاث سنوات، لأننا كنا فقط نريد أن نوفر الاستقرار للطلاب القادمين من جامعات حلب والفرات، وغيرهما، وتوفير الحد الأدنى للتعلم، وبالتالي بيئة التعلم اختلفت عند الطالب ولكن المناهج مع الأسف الشديد لم تتوافق مع الأزمة، وبقيت تقليدية، مضيفة: هناك مناهج خاصة تدرس خلال فترة الأزمات، نحن لم نلتزم بها، وكان من الضروري تأهيل المناهج للتوافق مع الأزمات، فعلى سبيل المثال أوزان بعض المقررات كان يجب أن تزيد على حساب أوزان أخرى كالطب النفسي الذي تقلصت فيه عدد الكوادر كثيراً، أيضاً عدد الأساتذة بالجراحة الذين يركزون على الإنعاش القلبي الرئوي، وعلى الإسعافات الأولية، وإعادة تأهيل مشاكل النطق والتشوهات وفقد الأطراف، هذا كله لم تتم تغطيته بالمناهج، ونحن قمنا بتحليل نقدي لهذا الأمر، وتوصلنا لنتيجة أنه كان من الضروري جداً أن يركز الأساتذة في هذه الفترة على أمور مرتبطة باحتياجات المجتمع في حينه، وهنا المركز قام بالتصدي لهذا الأمر من خلال كتيبات تقدم للطلاب الذين لم تتمكن جامعاتهم من تغطية هذه المعلومات والمهارات لديهم.

دورها العريق

لابد أن نعترف بأن الجامعة هي من تقود العالم على أرضية الفهم، وعلى أرضية البحث، وتقديم الرأي في الزمان والمكان المناسبين، فللجامعات دور خدمي وتربوي وبحثي، إضافة إلى الدور الوطني، ولا يمكن أن ننكر الأدوار الكثيرة التي تلعبها الجامعة في العالم عامة، وفي سورية بشكل خاص، لذلك من الضروري جداً أن نكثف كل الجهود لنعيد لجامعاتنا ألقها ودورها العريق التي كانت عليه قبل الحرب من خلال القيام بدراسة متعمقة لواقع التعليم في جامعاتنا وكلياتنا.

لينا عدرة