اقتصادصحيفة البعث

الاستثمار الأولى والأجدى

من يتمعن ملياً في جحيم السنوات الثماني المنصرمة التي شهدها قطرنا، يستنتج أن ما تجرعناه من خراب ودمار وفساد لم يكن فقط نتيجة المؤامرة المحضَّر والمدبَّر لها منذ سنوات، بل كان أيضاً نتيجة غلبة جزئية لثقافة سلبية غزت عقول شريحة غير قليلة من السوريين؛ ما مهد لتمكين المتآمرين من تنفيذ جريمتهم عبر سيطرتهم على شريحة من المضلِّلين، الذين تمكنوا بدورهم من تجييش أعداد لا يستهان بكميتها ونوعيتها من المضلَّلين الذين انجروا وراءهم، وارتكبوا معاً ما ارتكبوه، انعكس سلباً على الواقع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي للوطن ومواطنيه.

لكن تلك الغلبة الجزئية للثقافة السلبية العرضية التي ظهرت أخطارها في مكان وأكثر على الأرض السورية، بدأت تتهاوى إثر غلبة ثقافة إيجابية ظهر أنها متجذرة في نفس الأمكنة وفي مئات الأمكنة الأخرى، لدى الشريحة الأكبر من المواطنين، ما أثمر عن تقهقر السلبي أمام الإيجابي واندحاره تتابعياً، وبدأت تباشير الانتصار تلوح في الأفق منذ أكثر من عامين، ما دفع السلطات المعنية لطرح شعار إعادة الإعمار، ويبدو أن المساعي في هذا الاتجاه جادة وكبيرة، والسوريون هم المعنيون رقم واحد في هذا الإعمار المنشود، وعليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار أن إعادة الإعمار ليست محصورة في الجانب الاقتصادي فقط، بل يجب أن تبدأ بالمزيد من تجذير الثقافة الإيجابية الوطنية البناءة التي كان لها دور كبير في الحد من دور الثقافة السلبية الهدامة التي سادت في مكان ما وزمن ما، ما يجعل من الضروري العمل باتجاه إيلاء مخزون الثقافة الإيجابية المزيد من التجذير والتحديث، وتلقينها لكل مواطن على مجمل ساحة القطر وعبر أكثر من وسيلة، وتفعيل دورها الهام المؤكد انعكاسه إيجاباً على الإعمار المنشود في كافة الجوانب الاقتصادية، لأن ثقافة المواطن هي الأساس في إعادة الإعمار، أياً كان الدور المنوط به والعمل الذي يؤديه، ما يوجب أن تبدأ مرحلة إعادة الإعمار المنشودة بدءاً من إعادة إعمار الحالة الثقافية وتكريس الاستثمار في الثقافة لجميع الشرائح الاجتماعية جنساً وعمراً وعملاً وأماكن سكن.

ولكن ليس من خلال المزيد من الإنفاق الهدري على ترميم وصيانة المراكز الثقافية القائمة أو إحداث جديدها، بل من خلال استثمار الكثير من الأمكنة التي تسمح بذلك والمنتشرة على ساحة القطر أكانت عائدة للدولة أو للمجتمع الأهلي، والتركيز على صياغة ونشر المعلومة الثقافية التي توجه بالمزيد من الإلفة الوطنية، بين جميع المواطنين، وتنمية روح التعاون بينهم، وتنمية جرأة وموضوعية ومصداقية الإشارة إلى مكامن الخلل والقصور والفساد، وعلى الجهات المعنية التكاتف لأجل تحقيق ذلك عبر لجان ثقافية، يتم تشكيلها من خلال وحدات إدارة المحلية، تعمل لإشراك جميع الفعاليات الثقافية والتربوية والإعلامية والمعرفية، وتعمل لتثقيف الكبار باتجاه زرع الروح الوطنية في الجيل الناشئ واستبعاد إثارة كل ما يضعف منها، والحض على المزيد من العودة إلى زراعة الأرض وتربية الثروة الحيوانية، وتثقيف الجيل الناشئ للحد من الإنفاق الهدري على قصات الشعر والعطور واللباس والمشروبات والاتصالات والمواصلات، وتوجيههم للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة، وتعليمهم تمكين أنفسهم من التعايش مع الواقع الراهن، مع العمل الحثيث لتحقيق الأفضل، لا التفرغ للتأملات والمطالب.

حبذا تضمين المناهج الدراسية في كافة المراحل، ولكافة الصفوف فصولاً دراسية في الثقافة الوطنية الاجتماعية البناءة، بالترافق مع المزيد من الندوات الثقافية المحددة الموضوع والهدف حاجة أساسية في كل مجتمع، ومن المتطلب إقامتها دورياً وعرضياً عند الحاجة في كل مدرسة – معهد – جامعة – حي – جهاز منظمة حزبية – جهاز منظمة نقابية – جهاز منظمة شعبية، عمال مؤسسة إدارية أو خدمية أو إنتاجية، ولتتبارى هذه الجهات  فيما بينها بما تقدمه من أفكار وبما تنفذه من تطبيقات ميدانية، تقرن الأقوال بالأفعال، بما يخدم منطلقات إعادة الإعمار بمفهومها العام، ولتكن منظمة حزب البعث والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية صاحبة الدور الجدير بالاقتداء في ذلك… ولتبرز الجهات الوطنية الأخرى دورها وحضورها الرديف، ولتكن السلطات الرسمية حاضرة في هذه الندوات لإغناء المطروح والرد على التساؤلات، والمهم الأهم يتمثل بضرورة إعادة النظر في  برامج القنوات التلفزيونية، وإغنائها بما ينمي الرابطة الوطنية والثقافية الإنتاجية، وحض المجتمع على تتبع هذه البرامج وقراءة الدوريات الورقية عبر تمكين وصول واحدة منها على الأقل لكل أسرة –لكل منشأة صغيرة وكبيرة، فالإعمار الثقافي مدخل أساس للإعمار الاقتصادي.

عبد اللطيف عباس شعبان

عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية