ثقافةصحيفة البعث

الغريبة

تذكرت قول صديقتي حين قالت لي ذات مرة: بعد أن تزوجت ظلت قدماي تقوداني إلى الأماكن التي توصلني لمنزل والدي، حتى أني في مرة استفقت لوعي فجأة بعد أن وجدت نفسي في الكراج المخصص لقريتي، وقفت بدهشة وتساءلت ما الذي أتى بي؟ ألم تعتد قدماي بعد على الطريق الجديد؟.
لم أخذلهما فاستقليت الباص المخصص لقريتي وعدت بنفس الطريق الذي مررت به لسنوات طويلة من عمري وأنا أتأمل البيوت والأشجار والمارّة، وبعد أن وصلت اقتحمت المنزل مسرعة ثم قابلت والديّ بلهفة وكأني أعود ككل مرة من جامعتي وبدأت بالضحك والثرثرة، وبعد ذلك عملت على تكرار كل الأشياء التي كنت أقوم بها سابقا، فتقصدت أن أضع حذائي عند مدخل غرفة الجلوس كالأيام الماضية، ثم بعثرت ردائي وأشيائي في كل مكان كالسابق كي لا تشعر أمي بغربتي عنها، ثم انتظرتها كي تطلب مني أن أرتب أشيائي في مكانها المحدد، كنها لم تفعل فلم يعد لأشيائي مكانا في منزلنا، وهنا أدركت للمرة الأولى والدموع تملأ عينيّ بأني الآن أصبحت الغريبة.
أصابني الفضول عن المرة الثانية فعدتُ وسألت صديقتي عن اللحظة الثانية التي شعرت فيها بالغربة فأكملت كلامها بحزن:
بعد سنوات ضج الحنين في داخلي من جديد، فساقتني قدماي للمرة الثانية إلى الكراج المخصص لقريتي، وكالمرة الأولى لم أخذلهما ووصلت باب منزلنا، لكنّ باب منزلنا خذلني، لقد كان مغلقا في وجهي، وكان يتوجب علي أن أطرقه قبل أن أدخل أن أطرقه كي يفتحه لي أحد ما، ربما قد تكون زوجة أخي “زوجة أخي التي كانت سابقا الغريبة”، تلك التي تلاسنت معها بقسوة سابقا، فاضطررت بعد وفاة والدايّ إلى الابتعاد عن أخي وعن زيارة منزلنا تجنبا للخلافات المتكررة.
تلك الطرقة البسيطة على الباب أعادت لي إدراكي وجزءا من كرامتي التي تنازلت عنها بعد وفاة أبي كي أبقى قريبة من إخوتي، ولذلك آثرت الاحتفاظ ببعض ما تبقى منها، وأدرت ظهري للباب قبل طرقه وعدت أدراجي خائبة ومشتاقة، عدت بألم بعد أن تركت خلفي ضحكاتي مع إخوتي وليالي سمرنا معا، بعد أن تركت الركن الذي اعتادت أمي الجلوس فيه، تركت فيه مكان حكاياتنا وأحلامنا مع والدي، في لحظتها كنت أنا الغريبة.
في الطريق رفعت رأسي للسماء باكية، سألت الله بألم: بأي حق نحرم نحن الفتيات من أماكن أحلامنا وأجمل أيامنا؟ من قال إن الفتاة لا ترث منزل أبيها وهي الأحرص عليه منذ ولادتها؟ من قال أنه علينا أن نطرق الباب عند الدخول؟ من علمكم أننا غرباء أو ضيوف؟ لو أني كنت رجلا لتركت المنزل لفتياتي من بعدي لأنهن الأحرص عليه.. لو كنت رجلا، لدافعت عن أخواتي، لكنني لست رجلا.. كما لم يكن أخي.
نوار عزيز مخلوف