ثقافةصحيفة البعث

“في حضن التوت.. رسائل خانها البريد”.. الكتابة عبر النوعية

 

بعد مجموعتها القصصية (الأفعى والتفاح)، صدر للكاتبة أنوار الأنوار مجموعتها الجديدة (في حضن التوت.. رسائل خانها البريد). إذ تطلق الكاتبة فضاء متخيلها السردي على أمداء الطفولة والبراءة والعود الأبدي إلى الحلم، في نصوص متصلة منفصلة، وذات عنوانات تفيض بشعريتها، وتمتح من ثراء معجمها، لتذهب إلى حقل الدلالة تنويعاً واشتعالاً بفطرية المعنى، في النصوص التسعة عشر التي ضمتها مجموعتها يتمازج الشعر بالنثر، ونقف على لغة شديدة الرهافة والاختلاف، لغة مقطّرة بكيمياء الوجد، ونوستالجيا الشجن، وعبر رحلة تبتدئ بنصها (شهوة العطش)، ثمة ما يشي بحساسية لغة مختلفة، وهي تذهب إلى مجاز الطفولة وبترجيعها في الذات، وبتصاديها في الوعي، ممسكة بجماليات الصورة واللقطة وأداء اللغة في متخيلها الأثير، محاكية كل مرئيات الطفولة ومشاكساتها في حوارية الحواس، وبما يتسع له المتخيل من أن يمزج الحلم بالواقع والتمرد بالانعتاق، لعلها سيرورة سيرة للذات والآخر والعالم في مرايا الوعي، وصولاً إلى مخاتلة اليقين «ها تسعة عشر أخرى وشعركِ مازال يسخر منكِ، شعركِ الذي لم تتركِ وسيلة لتجعيده كي يليق بما أحبَّ حبيبٌ أبهركِ يوماً ورأيت من شفتيه حبات لهفة تنهمر إذ حدّقَ في فتاة في مجلة، ثم قال ممطراً شغفاً، يسحرني الشعر الأجعد».
لكنك كتابة الشغف وهي تحيلنا إلى المدرك والـلا مدرك، وإلى محاولة اختراق اللحظة بلغة طازجة ذات قدرة عالية على أن ترسم الشخوص من الداخل، وتوقع خلجات شغفهم، وصبابات أرواحهم، وتحولاتهم في واقع لا يشبههم، صوب حلم لعله يمنحهم القدرة على أن يستعيدوا كينونتهم، الكينونة التي تؤرخ لأحلامهم التي فطروا عليها، هكذا ببساطة هذا الشغف وعمقه، تبدو النصوص بإيقاعاتها في مرايا الكاتبة وهي المؤتلفة المختلفة، أكثر من شيء يخص الروح، بل يخص الكتابة وكيف تؤرخ لأزمنتها الخاصة، أي باتساعها وقلقها وغواياتها المستحبة، كل ذلك لتنشئ نصاً عابراً للنصوص في المستوى الاجناسي، كنصها (حاكورة أم حسن) وكيف كانت تطل إليها من شرفة طفولتها، لتقول جملة ذات دلالة: «آتي إليكِ صباح كل عيد لأذكر أعياداً منحتها لي، ثم أقرأ لكِ فاتحة الكتاب أملاً بأن يسمع الله دعاء شعب لم تتوقف شلالات مآسيه منذ عقود، لعله يمنُّ علينا بفاتحة أخرى جديدة، فاتحة لخير وأمل توصد أبواب الشقاء والمعاناة».
في صيغ المخاطبة ولعلها مناددة الذات المبدعة، وكيف تجلو عوالمها الأخرى، تتابع الكاتبة أنوار الأنوار سرد الدهشة لعوالم تحتفي بالحب والصمت في محكيات عاجلة، لكنها الأكثر امتداداً في محاكاة تلك الأزمنة/ التراجيدية، التي بحث فيها الفلسطيني مبدعاً عن شرطه الإنساني، من خلال علاقته باللغة أولاً بوصفها الحاسة الأولى الحاملة لصوته وحلمه، وهذا ما يميز السرد النسوي الفلسطيني، بقيمته المضافة خاصة، مما نجده طي سرديات معاصرة وفي أنه الناطق «بأوجاع لا يمحوها الموت، ولا ينصفها قبر تزهر فوقه وردات التوليب ويخضر الحبق، أحلام تخشى عليها التناثر والضياع، قلوب بعيدة لم تدرك يوماً أن تقرأنا بأكثر من عين».
في استعادة الشغف بالبراءة والبساطة وعناصر التكوين الأولى، تذهب النصوص لتحتفي بالريح والمطر وصوت الأوراق وبوقع حبات البرد لتجلو جمالاً عابراً للجمال، وفي صلب هذه الجماليات المضرجة بالنصوص توقع أنوار الأنوار بحساسية المبدعة ومضاتها السريعة وأطيافها، وفي نسيج المحكي ثمة مضمرات اجتماعية تناوشها الكتابة، لينتهِ الطيف الخامس بالملفوظ السردي: «دعي الوصايا جانباً يا حبيبتي.. لا ريب كان محقاً طبيبكِ، لم تعيقكِ ساقكِ التي بتروا، ذلك أنكِ وللمشي في غاباتهم لن تحتاجي غير أجنحةٍ لا تُشذب، وقلبِ يسكنه الله، وعينٍ لا تضيق، وطيفٍ يُخلص لكِ الحب».
لعل الأصوات التي تتعدد في النصوص، ستشي بثراء اللغة وعبر حساسيتها في التعالق بالرموز والأساطير والموروث، وذلك ما يميز طبيعة خطاب إبداعي مفتوح على المشتهى أبداً، وبوصفه مدونةً بفرادة أسلوبية في حساسية حداثتها، وفي انتخابها لممكنات لغة قادرة ببلاغة فطرية على أن تصطفي من الواقع ما يمنحها غير احتمال للجمال.
“في حضن التوت.. رسائل خانها البريد” صادرة عن دار الجندي للنشر والتوزيع – القدس- 2016
أحمد علي هلال