ثقافةصحيفة البعث

الكتابة النسوية والجنس

ذات يوم قال توفيق الحكيم: (المرأة الذكية الجميلة نادرة وخطيرة يخافها الرجال فما بال المرأة الكاتبة حمانا الله من شرّها) ومن الغريب أنّ كاتباً كبيراً مثل خليل حاوي قال يوما بحق المرأة إنها (تولد في الشرق بغيّا ثم تقضي العمر في لفق البكارة) وما تزال تلك النظرة إلى المرأة الكاتبة شائعة حتى يومنا هذا، فالمرأة التي تكتب نقدا للمجتمع والرجل تصبح مسترجلة لأن وصفها بالكاتبة ما يزال يترك وقعا غريبا على السواد الأعظم؛ فالأوصاف السائدة للمرأة هي ربة منزل، أو زوجة، أو عشيقة، أو خادمة؛ وما يزال مفهوم الأنوثة حبيس سجنين لا ثالث لهما الخدمة والطاعة،أو الميوعة والمراوغة والتعرّي.
أما وصف الكاتبة فيعني تسليط الضوء بالمعنى السلبي على المرأة التي تزاول هذه المهنة إذ يسارعون لقراءة نتاجها ليس بحثا عن قيمة فكرية أو جمالية،وإنما تنقيبا عن أسرارها الشخصية،وبحثاً عن نقاط شك واتهام؛ ولا يحدث ذلك مع الرجل، ثم إنّ أول ما يتبادر إلى ذهن الأغلبية أنّ النصوص الوجدانية التي تكتبها ما هي إلا صدى الجنس المكبوت،وفي أحسن الأحوال سيقولون إنها تكتب سيرتها الشخصية ليثبتون بذلك ثقافتهم الاعتباطية وغير المسؤولة، متناسين أنها حتى حين تكتب سيرتها الذاتية قادرة على الابتعاد عن النقل الحرفي وقادرة على إعادة خلقها، أو مزجها بسير نساء أخريات لتشكّل في نهاية المطاف سيرة نسائية ذات بعد إنساني عام، وهذا يعود بوضوح إلى أنّ المجتمع الشرقي، والعربي الإسلامي يخضع المرأة إلى أحكام أخلاقية تختلف عن الأحكام الأخلاقية التي يخضعون الرجل لها، وعند ذلك أين الإيمان بتساويهما في القيمة الإنسانية، وهذا يقود تلقائيا إلى الحديث عن معوقات الإبداع أمام المرأة الكاتبة وأبرزها انعدام الحرية وتعرضها لضغوط العمل خارج المنزل وداخله، إذ ما زالت الثقافة السائدة هي أن المرأة تعطي والرجل يأخذ لكن الحياة تطورت، وخرجت المرأة للعلم، والعمل والإبداع والنشاط الذهني والعقلي، ولها دورها في إصلاح المجتمع، وتضاعفت حاجتها للأخذ كتضاعف عطائها.

أدب نسائي وكتابة نسوية
ما تزال الأقلام تصف النتاج الأدبي الذي تكتبه المرأة بالأدب النسائي، وهذه تسمية مرفوضة جملة وتفصيلا تفتقر إلى الدقة الموضوعية، لأن قبولنا التسمية يدفع إلى التساؤل حول ما إذا كان جنس الكاتب يشفع للمكتوب، فإذا كان الكاتب رجلا كان المكتوب أدبا، وإذا كان امرأة كان المكتوب شبه أدب أو لا أدب، وقد تساءلت غادة السمان عن المقصود بالأدب النسائي، فإذا كان المقصود هو الأدب الذي يركز على قضايا المرأة من انتهاك لحقوقها فهل نضع الأدب الذي يكتبه الرجال حول هذه القضايا تحت اسم الأدب النسائي، أو نضع الأدب الممتاز الذي تكتبه النساء حول قضايا الإنسان الكبرى أدبا رجاليا، ومن الطبيعي أن الإجابة على هذه الأسئلة هي النفي القاطع إذ انه ليس للفكر أعضاء تناسلية على حد تعبير غادة السمان وليس هناك تصنيف للمهن بين رجالية ونسائية، وإذا أخذنا بالتسمية يصبح الأدب الرجالي قوّاماً على الأدب النسائي، وهكذا فالكتابة النسوية مفهوما مغلوطا ابتدعته الثقافة الذكورية غير عابئة بالريادات الطليعية التي تحققت بأقلام نسائية فأحدثت شروخا في الثقافة العربية، وأوصلت رسائل إنسانية ساهمت في إصلاح المجتمع والسير به نحو بلوغ أهداف ثقافية نبيلة فمن يتجاهل نتاج مي زيادة، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان وعشرات الأسماء العربية من شاعرات وكاتبات حرّكن بكتاباتهن المياه الراكدة في مجتمعاتهن العربية، ما أكّد أن الكتابة نتاج تشاركي إبداعي بين الرجل والمرأة بغض النظر عن الطبيعة الفيزيولوجية، ولا فرق بين الكتابتين إلا من الناحيتين الكمية والنوعية وهذا ما لم يتم وعيه بالقدر المطلوب من قبل كثير من المتعلمين والمثقفين على حد سواء في مجتمع يفتقر إلى نهضة اجتماعية ونسائية.

موضوع الجنس في الأدب
بين الفينة والأخرى تعلو أصوات تتهم النتاج الكتابي للمرأة العربية المعاصرة بأنه مسكون بهاجس الجسد وأنها تكتب بجسدها مرجعين ذلك إلى هاجس الانتشار والشهرة ومغريات النجاح، حيث يستند انتشار تلك الكتابات المتهمة على جرأتها في استخدام الإيحاءات الجنسية لا على جمال النصوص وما فيها من إبداع وتجديد، ومثل هذا اللبس يقتضي الإزالة، إذ ليس من العيب الاستماع لنداء الجسد لكن الأهم من ذلك هو الإدراك الواعي لقيمة الجسد كتمظهر للجمال الإنساني، والارتقاء الفكري، لا التلبية الجنسية البحتة فليس حلا للمشكلة حجب الجسد الأنثوي والذكوري على حد سواء، بل الحل البدهي هو امتلاك حرية فكرية ونفسية وروحية تقوم بأعباء هذا الجسد المشترك الذي لا حرية له قبل تحرر العقل، وستكون النتيجة الطبيعية هي استحقاق المنجز الإبداعي بما فيه من فكر ولغة وفن وليس بمقدار ما فيه من جنس وعلاقات غرامية، وذلك مساهمة في تحرير المرأة من التنشئة التي وصمها بها المجتمع المتخلف وهي أنها أداة للجنس كما أكدت نوال السعداوي في جلّ أعمالها ما يذكّر أيضاً بالرائدة النسوية الهندية (شيفا) التي تصدّرت تياّراً نسويّاً ينادي بفكرة ضرورة انتباه المرأة لكونها طبيعة قابلة لأنواع الاستغلال الذي تتعرض له الموارد الطبيعية من قبل النظام الرأسمالي.
لا شك أن طرح قضايا الجنس في الأدب والثقافة ضرورة ملحة في القرن الواحد والعشرين، لكن طرح هذه القضايا لن يكون مجديا دون شروط وضوابط، إذ لا بد من طرحها في إطارها الإنساني لتخدم الحياة والناس،وبأشكال منطقية لتخدم الأدب، وبأساليب أدبية راقية وفيما عدا ذلك فإن الكاتب يخون نفسه، ويخون قارئه وقد طرحت الكثيرات من الكاتبات موضوع الجنس برصانة ومنهج علمي وسوية اجتماعية مثل نوال السعداوي وغادة السمان، وفاطمة المرنيسي، وكوليت خوري وأخريات كثيرات طرحن الموضوع، ولم يجرّدوا الأدب الجنسي من إطاره الإنساني ومضمونه الفكري، أما أدعياء التحرر والحرية فقد هبطوا في سياق معالجتهم لهذا الموضوع بالطبيعة الإنسانية إلى مستوى غرائزي بهيمي على نقيض ما نحلم به من ثراء إنساني، وهذا يعود بنا إلى ما نظنه اختلافا أخلاقيا، وقيميّاً لكن ما هو إلا اختلاف فكري، فلكل أديب مفاهيمه التي يقتضيها حقه الإنساني، والاجتماعي، فالجنس الإنساني هو شيء آخر غير الجنس البهيمي لأنّه مرتبط بالنفس البشرية، والثورة الجنسية هي ثورة مُتمّمة وموازية لثوراته الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية وهي ليست غير احترام جسده وفكره وفق منظومة منطقية يرضى عنها العقل وهي مسالة أخرى ومختلفة تماما عن الفورة الإباحية والتخدير الجنسي المتبادل.
لقد سبقت حواء ادم إلى ثمرة المعرفة فكانت المعرفة هي خطيئة حواء لا الجنس كما صور بعض المؤرخين ولذلك تُحدّد مي زيادة دوراً خطيراً تسنده للمرأة الكاتبة تسميّه (حرب الفرد على الجمهور، وحرب الروح على المادة،وحرب الحكمة على الزهو، وحرب الحصافة على الغرور،وحرب العدل على الطغيان،وحرب الكرامة على التطفل،وحرب الحق والواجب على التجهم والخمول،بل حرب العمل والصلاح السائرة بالإنسان إلى الارتقاء) ولكن حرب النساء هذه لن تسفر عن نهضة مجتمعية بغير مساندة الرجل، فإذا كانت المرأة نصف المجتمع فالرجل نصفه الآخر ومساندته شرطا لازما، ولا بد أن يدرك الرجال أن جنايتهم على المرأة ليست جناية ضد النساء بل ضد أنفسهم وضد المجتمع والوطن والمستقبل، ولذلك لا بد أن تتحول يد الرجل من أداة سحق وضغط على المرأة إلى أداة عطف وتشجيع، فمن حق النساء الناجحات أديباتٍ كنَّ، أو عالمات، أو مربيات تقدير عطائهن عن طريق استذكار سيرهن، وإضاءة عطائهن ليكنَّ أملاً وحافزاً و أمثولة.
إن تخصيص يومين كل عام هما 8 آذار عيد المرأة العالمي، و21 آذار عيد الأم هو أمر ممتاز شرط أن تتجاوز الفكرة فكرة العطلة إلى عمل جاد وهادف وجمع آثارهن وأعمالهن ودراستها على سبيل تقديرها جيدا، وتكريم صاحباتها.
د. وضحى يونس