تحقيقاتصحيفة البعث

الأمطار الأخيرة فضحت القرار الخاطىء موقع محطة معالجة القليعة..دراسات تهدر المال العام واستهتار فاضح بالارء العلمية

فاض نهر قيس، وتفجرت الينابيع بالقرب منه نتيجة الأمطار التي ترافقت مع العاصفة في محافظة طرطوس، كاشفة الغطاء عن سوء اختيار مكان محطة المعالجة: دريكيش– القليعة، والاستهتار بالمال العام، حيث غمرت مياه الأمطار الأنابيب، والتجهيزات، والجدران التي تم إنشاؤها بالقرب من النهر.
هل كتب على محافظاتنا أن تعيش سوء استغلال المخصصات التي يتم رصدها من أجل مشاريع هي لصالح المواطن، فإذا بالتعنت وسوء الدراسة يتحولان إلى كارثة ضد المواطن، والطبيعة الجميلة؟!.
الأستاذ عميد كلية الهندسة في جامعة دمشق الدكتور شكري البابا أكد أن اختيار الموقع الأمثل للمشروع هو دليل نجاح، واختيار الموقع الخطأ دليل فشل، والتعنت والتمسك بالخطأ، والإصرار على السير بالمشروع بعد ظهور الدلائل التي دحضت الاختيار وأكدت خطأه ليس فشلاً وإنما هو استهتار بالمؤسسات العلمية التي لم يؤخذ برأيها، وكذلك التي أعطت رأيها، مؤكدة الخطأ، وهو أيضاً إصرار على هدر أموال ستجرفها مياه الأمطار، وتقدر بمئات الملايين؟!.

الموقع هو الأهم أولاً وأخيراً
محطات المعالجة والصرف الصحي هدفها الأول والرئيسي الحفاظ على البيئة، وسلامة المياه والتربة، وأول الشروط والبديهيات لإنشاء أية محطة هو اختيار الموقع الصحيح المناسب الذي يكفل تحقيق دور المحطة بالحفاظ على سلامة البيئة، خاصة ما يتعلق بالأنهار والينابيع وضمان سلامتها.
تخيلوا معنا أن يكون موقع محطة المعالجة في مجرى نهر، وفوق ينابيع، وبالقرب من سد لمياه الشرب، وبجوار جبل معرّض للانهيار، هذا هو الواقع المفروض، فهل هناك جريمة أكثر من ذلك؟!.
محطة القليعة– حاموش رسلان التي كانت تسمى القليعة– الدلبة تنفذ قسراً وخلافاً لكل الآراء الداعمة لخطورة موقعها، ومخالفتها لقانون البيئة، ولتقارير جامعة دمشق، والمؤسسة العامة للجيولوجيا!.
وللأسف منذ 27/8/2018 بدأت خطوات تنفيذ المحطة بناء على وثائق غير صحيحة، رغم أن الموقع مهدد بانزلاق التربة، ويسبب تلوث نهر الدلبة، والينابيع القريبة منه، وهي: الدلبة، العيدون، الهني، إضافة إلى بئرين ارتوازيين تابعين لمؤسسة المياه، وسد للشرب يغذي المنطقة.
ومنذ بدء خطوات التنفيذ والاعتراضات وردت من خمس فرق وشعب حزبية، والرابطة الفلاحية، وست بلديات، والمكتب التنفيذي للمحافظة، ووزارة البيئة، ووزارة الموارد المائية، وتقرير جامعة دمشق، وتقرير مؤسسة الجيولوجيا.
تراجع!!
سبق أن حضر وزير الموارد المائية الأسبق اجتماعاً بتاريخ 12/10/2017 مع محافظ طرطوس، والمعنيين بالموضوع، ونتيجة التداول أُكد خطأ موقع المحطة، لكن سرعان ما تراجع الوزير الأسبق عن قراره، والاستناد إلى رأي خبرة أخرى كلّفها أشارت إلى أن النهر بعيد عن موقع المحطة، ولذلك هي بعيدة عن احتمال حصول فيضان، رغم أن الواقع يؤكد وقوع المحطة في حرم النهر، وخطأ الرأي ببعدها عن الفيضان الذي اعتمد في حسابه على النسبة 1/1000، وهي غير دقيقة، والنسبة الدقيقة 1/100، واحتمال حدوث الفيضان يظل وارداً، وحصل الآن كما ذكرنا، ويتوجب إلغاء الموقع وتغييره استناداً إلى أية خبرة هندسية صادقة.

ماذا قال المختصون؟
نبدأ برأي مدير الخدمات الفنية في طرطوس، المهندس علي هلال رستم الذي أوضح بنتيجة جولة ميدانية مع الأهالي بكتابه رقم 905/ص/ق تاريخ 29/1/2017 وجود ينابيع عديدة ضعيفة ومتوسطة الغزارة، ومنها ما هو ضمن مجرى وحرم النهر تماماً، وتبقى ظاهرة حتى في موسم الجفاف، وبعضها ينبع من الأكتاف الجانبية لنهر الدلبة الذي يغذي 47 قرية، إضافة لمدينة دريكيش، وجنينة رسلان، وبحيرة السد، وجميعها تقع تحت المحطة، ما يعني تلوثها جميعها في حال تنفيذ المحطة، منوهاً بأنه تم تحويل الكتاب إلى المختصين والمسؤولين.
المؤسف أن يكون جواب وزير الموارد المائية السابق على كتاب محافظ طرطوس، وعلى كتاب كلية الهندسة المدنية بخصوص محطة معالجة القليعة- الدلبة، التأكيد بأن مناسيب الينابيع المحيطة بالمحطة أعلى، وجبهات التغذية لا تتأثر بموقع المحطة، رغم أن هذا الكلام مناقض للحقيقة، فالينابيع جميعها، وأهمها الدلبة، تقع تحت المحطة وليس فوقها، ويكفي الكشف الميداني لتأكيد ذلك، كما أن تأكيده أيضاً بأن المحطة تبعد عن سد دريكيش 2 كم عار عن الصحة، وتم أخذ كافة الاحتياطات لعدم تلويث بحيرة السد في حال تنفيذ المحطة، حيث تم تصميم خط كتيم من البولي ايتيلين لإمرار المياه المعالجة إلى ما بعد جسم السد.

شكاوى ومن يسمع؟!
وفي شكوى لمجلس الشعب، أوضح السكان أن خط محور القليعة– الدلبة بطول 7 كم منفذ في موقعه الخاطىء منذ عام 2006، وتنفيذه سيىء ومخرب، ومعظمه في حرم النهر، كما أن السيول والصرف المائي تفيض منه في الوديان وفوق الينابيع وفوق السد، ومنها نبع الدلبة الغزير.
محطة بيت عفوف تم تدشينها منذ عامين، وهي ضمن حرم السد خلافاً لقانون التشريع المائي، وفوق مياه البحيرة المخصصة للشرب بسبعين متراً، ولم تعمل هذه المحطة لأكثر من عام، وكانت سبباً لتلويث البحيرة، وسد الشرب، والمياه الجوفية!.

هل البيئة تسمية ورقية فقط؟!
لماذا الإصرار على تنفيذ المحطة بهذا الموقع؟ وأية مصالح تقف وراء هذا التصلب، مع أن مستقبل استثمارها واضح للعيان تلويثاً وتخريباً؟! وأي مشروع ينفذ بقرب مجرى مائي؟!.
من أهم شروط الموافقة على مثل هذه المشاريع حصولها على موافقة الدوائر البيئية المختصة أولاً، فكيف يتم التجاوز عن وثائق مديرية البيئة في طرطوس رقم 353/ ص تاريخ 13/3/2018، و892/ص تاريخ 20/6/2018، و1692 تاريخ 7/11/2018؟! جميع هذه الكتب تؤكد عدم موافقة مديرية البيئة على الموقع حماية للينابيع، والأنهر، والمياه الجوفية، والبئرين الارتوازيين التابعين لمؤسسة المياه، علماً أن كلفة المشروع تقارب ملياراً ونصف مليار ليرة سورية، ويمكن توفير الجزء الأكبر منها بتغيير الموقع حماية لحقوق ما يقارب أكثر من ستين قرية ومدينة.
وتؤكد اعتراضات مديرية البيئة أن موقع المحطة المجاور لمجرى نهر قيس الذي ينتهي في بحيرة دريكيش، وقربه من نبع الدلبة، وتوجيهات وزارة الدولة لشؤون البيئة بكتابها رقم 605/ص /ت/ث تاريخ 7/3/2010 على أن إقامة محطات المعالجة الخاصة بالصرف الصحي تتطلب تقييم الأثر البيئي بهدف اختيار الموقع الملائم بيئياً، والتخفيف من الآثار السلبية الناتجة عن إقامتها، لذلك تطالب المديرية بتزويدها بتقرير الدراسة ليتم تدقيقه، ومن ثم تقييم الأثر البيئي للمحطة قبل البدء بتنفيذها0
لم يستجب أو يرد على المراسلات، ولم تقدم الدراسة، ولم يتم أي إجراء يؤكد اتباع القوانين، على العكس تمت المباشرة بتنفيذ المحطة رغم كل هذه المخالفات!.

مراسلات ورقية دون إجراءات
السيد وزير الإدارة المحلية يراسل وزير الموارد المائية بكتاب يؤكد تخوف السكان من تلوث المياه والينابيع والسد والبحيرة، وطلب دراسة البدائل بموقع أقل ضرراً، مع وجود أراض مستملكة تمثّل إمكانية بناء المحطة فيها، ولم يتم الرد على الكتاب حتى تاريخه!.
موقع المحطة كان مقرراً تحت نبع الدلبة، وتم تغييره إلى موقع حرم النهر الذي يتصف بسيولة مياهه، وبجانب جبل انزلاقي، وتوجد مياه جوفية عالية، وتحت الموقع مجموعة ينابيع مسارها متصل بنبع الدلبة الغزير، وهو مجاور لسد مياه الشرب، والموقع معرّض للانجراف وفق ما تؤكده تقارير الجامعة والجيولوجيا، حيث أثار كتاب مدير فرع الجيولوجيا في طرطوس المهندس إبراهيم إسماعيل برقم 1820/و تاريخ 11/7/2018 بأن دراسة الموقع والاطلاع على واقع الأرض توضح أن الموقع المحاذي للعنفة الجنوبية لنهر قيس هو عبارة عن صخور شديدة الانحدار، ولوحظ سقوط كتل صخرية بأبعاد مختلفة وكبيرة ضمن سرير النهر، وأن موقع المحطة المقترح يقع ضمن سرير النهر، مع وجود مناطق مستصلحة ومستملكة لصالح محطة تنقية مياه الصرف الصحي، ومع الإشارة إلى ينابيع مياه عذبة، وكتل انزلاق وصل قوس أحدها إلى 120×50 متراً، ما يؤكد أن المحطة تقع تحت قوس الانزلاق، وتعرّضها لخطر أكيد، خاصة بوجود تكهفات كارستية مفتوحة بفتحات عميقة، أي أن موقعها مؤذ لها كما هو مؤذ للبيئة ولكامل الجوار!.

أساتذة الهندسة البيئية يؤكدون
في تقرير فني موقع من رئيس قسم الهندسة البيئية الأستاذ الدكتور بسام العجي، والنائب العلمي د. مسعود حديد، ود. م غسان درة، يؤكدون أن موقع المحطة غير مناسب أبداً لإنشاء محطة معالجة لكونه محاطاً بعدد من الينابيع، ويجاور سد مياه الشرب، وأن منسوب المياه الجوفية مرتفع، ما يعني أن أي تسرب لمياه الصرف الصحي سيؤدي إلى تلوث الينابيع والسد، وبالتالي تلويث مصادر مياه الشرب، وأن موقع المحطة ضمن حرم نهر قيس القديم، ويجاور مجراه الحالي، وأن الغزارة الفيضانية تتولّد نتيجة عاصفة مطرية ذات تواتر، ما يعرّض المحطة للأذى!.

قوة التغيير وضعف التبرير
بعد كل هذه الآراء العلمية التي تؤكد سوء الاختيار لموقع المحطة، لا مجال أبداً لإضاعة المال العام بالتمسك بمشروع في موقع خاطىء، وكفانا خسارة لمشاريع تحتاجها التنمية تضيع في متاهات، منها اختيار الموقع الخاطىء، وصرف الأموال دون التحقق من كفاءة مشاريع لا يوجد لها برنامج زمني واضح، وهذه ثغرة كبيرة في إعداد الموازنات، وغياب المتابعة، وتغييب الدور المطلوب لهيئة تخطيط الدولة في هذا المجال!.
ابتسام المغربي