دراساتصحيفة البعث

انسحاب ترامب من الناتو.. هـــدية لروســــيا أم لألمانـــيــا؟

سمر سامي السمارة

سارعت وسائل الإعلام الغربية للادعاء بأن محاولة ترامب المستمرة للانسحاب من منظمة حلف شمال الأطلسي ليست إلا هدية لروسيا، وحول ذلك نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريراً زعمت فيه أن الرئيس ترامب اقترح تحركاً بمثابة تدمير للناتو بانسحاب الولايات المتحدة الذي اعتمد فيه على نصيحة كبار المسؤولين المجهولين في الإدارة الأمريكية.

وبحسب التايمز، فإن ترامب يرى أن لا جدوى تذكر من حلف شمال الأطلسي وأنه استنزاف للولايات المتحدة، وإذا كان الأمر كذلك إذاً ما هي المشكلة؟  في المقابل ترى التايمزأن الرئيس فلاديمير بوتين لا يرغب بشيء أكثر من إضعاف حلف شمال الأطلسي. وفي مقابلة أجرتها الصحيفة مع “ميشيل فلورني”  وكيل وزارة الدفاع في عهد باراك أوباما ، قالت: إن انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو “سيكون بمثابة فوز كبير يحلم به فلاديمير بوتين.” وانضم الأدميرال جيمس جاي ستافريديس، القائد الأعلى الأسبق لحلف شمال الأطلسي إلى فلورني مؤكداً أن مجرد فكرة الانسحاب من حلف الناتو هو هبة القرن لبوتين”.

ولعله من المستغرب أن تكون هناك أسباب للمساءلة إذا أراد الرئيس الأمريكي سحب بلاده من تحالف عسكري، بينما لا تتم مسألة الرئيس لترأسه هذه المنظمة في الوقت الذي تقصف فيه 70 % من إمدادات المياه في ليبيا، وهي جريمة حرب متعمدة بشكل واضح، وليس من أسباب لرئيس الولايات المتحدة لتوفير الموارد الكاملة لقوات جيش بلاده باعتبارها “العمود الفقري” لكل هجوم (إن لم يكن كل) للناتو في هجومه وقصفه، في القارة الأفريقية بأسرها.

في الحقيقة، لم يكن الهاجس الأكبر لهذا القرار إلا تنفيذ الوعد الذي أطلقه في حملته الانتخابية – “أمريكا أولاً”-   والذي ينطوي على عدم مشاركة الولايات المتحدة في  معاهدات المنظمات الدولية التي لا يرى جدوى فيها.

لذا ، بدون استخدام العناوين الطنانة حول حلم الرئيس الروسي باليوم الذي يقوم فيه دونالد ترامب بتفكيك منظمة حلف شمال الأطلسي بفعالية، وكيف سيكون هذا أسوأ سيناريو في العالم لبعض من النخب المؤسسية، هناك مناقشة حقيقية حول الناتو و ما الذي سيعنيه الانسحاب الأمريكي بالنسبة للمنطقة؟.

كتب فيكتور ديفيس هانسون في  صحيفة شيكاغو تريبيون: “في عصر أصبح فيه الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو الآن من الماضي البعيد، يثني الجميع على حلف الناتو باعتباره لا غنى عنه، وأنه  أساسي للتضامن الغربي والأمن الأوروبي، لكن قلة من الناس يرون من الضرورة شرح أهمية وجوده”.

ويرى هانسون في تقييم قدمه أن ألمانيا – وليس الولايات المتحدة (أو روسيا) – هي التي تشكل التحدي الحقيقي للتحالف العسكري، لأن برلين ترسل الإنذارات إلى دول جنوب أوروبا المثقلة بالديون، و تحاول وحدها أن تملي سياسة الهجرة على  الاتحاد الأوروبي، وتضع شروطاً متشددة للضغط على المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وحين تقرر برلين فإنها لا تسدد ما وعدت به من المساهمة المتمثلة بنسبة 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي  لحلف الناتو ، حيث تحذو دولاً أخرى حذوها. ست فقط من دول الناتو الـ 29 (غير الولايات المتحدة) قد وفت بالتقييمات التي وعدت بها.

في 13 تشرين الثاني 2017 ، وقعت 23 دولة من دول الاتحاد الأوروبي (من أصل 28) إقراراً لإنشاء ما هو في الأساس جيش أوروبي مشترك. وبينما كانت وسائل الإعلام ترغي وتزبد عن روسيا وترامب ، لعبت ألمانيا دوراً أساسياً في دفع القارة الأوروبية في هذا الاتجاه بغض النظر عن التزاماتها مع حلف الناتو.

وقبلها وفي عام 2015 ، قال رئيس المفوضية الأوروبية  “جان كلود يونكر”  لصحيفة فيلت أم زونتاج الألمانية إن استخدام الجيش الأوروبي لن يحدث بين عشية وضحاها ، لكن “جيشاً مشتركاً بين الأوروبيين سينقل إلى روسيا أننا جادون بشأن الدفاع عن قيم الاتحاد الأوروبي .

وبحلول عام 2020  تهدف ألمانيا ذات الاقتصاد الأكبر في أوروبا لرفع حجم الإنفاق على المعدات العسكرية بنسبة 53 في المائة مقارنة بعام 2016 وفقاً لتقدير وزارة الدفاع الألمانية وكانت قد أعلنت في شباط 2017 أنها ستبدأ زيادة حجم قواتها المسلحة على مدى سبع سنوات من قرابة 180،000 إلى ما يقرب من 200،000 عسكري،  كما أعلنت دمج قواتها المسلحة مع رومانيا وجمهورية التشيك، وهي خطوات نحو تأسيس جيش أوروبي موحد.

لا يزال الناس داخل أوروبا وخارجها يحملون ذكريات حية عن الحرب العالمية الثانية وصعود ألمانيا لتصبح قوة إقليمية، بالرغم من أنها كانت قوة عدوانية للغاية. ولذلك، فإن فكرة ولادة قوة عسكرية مرة أخرى في برلين ما زالت تثير جيران ألمانيا و حلفاءها.

أوليس من الأفضل إذاً أن يكون هناك جيش أوروبي موحد ، مع وجود دور قيادي لألمانيا مستتر عن الأنظار؟ من المؤكد أن هذا سيكون ملائماً في فترة تولي ترامب ، حيث قالت ألمانيا بصراحة إنه لم يعد بوسعها الاعتماد على الولايات المتحدة كما كان في الماضي.

حتى قبل انتخابات ترامب، بدا أن ألمانيا لديها مشاكل مع حلف الناتو. ومن الواضح تماما أنها نأت بنفسها عن هجوم التحالف المميت على ليبيا، حيث أبدت معارضة شديدة للقصف الجوي على القذافي وإرسال قوات إلى دولة شمال أفريقية.

ووفقاً لاستطلاع للرأي جرى في نهاية عام 2017 ، قال معظم الألمان إن روسيا أكثر موثوقية من الولايات المتحدة، وهذا يعيد إلى الأذهان استقصاء آخر أجراه مركز “بيو” للأبحاث في واشنطن والذي وجد أن 22 من أصل 37 دولة شملها الاستطلاع قالوا إنهم يثقون في الرئيس الروسي أكثر من ثقتهم بالرئيس الأمريكي.

لن يعرف الكثير من الأمريكيين هذا، ولن يهتموا ، لكن هذا الموقف المناهض لأمريكا ليس جديداً تماماً أيضاً. وألقى كثيرون من الألمان باللوم على الولايات المتحدة منذ توحيد ألمانيا والأعباء التي تلت ذلك، بل وحتى إلقاء اللوم على الحلفاء الغربيين لبناء جدار برلين.

وإذا كنا سنواصل الحديث على هذا النحو  ( اعتبار الانسحاب هبة لروسيا) ، لابد لنا من إجراء نقاش نزيه حول سبب تفضيل أي زعيم روسي حقيقي رؤية المنظمة – على أقل تقدير –  تتراجع.

خلال اجتماع عُقد في 9 شباط عام 1990 في أعقاب الحرب الباردة، كان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر قد أكد بالفعل للرئيس الروسي في ذلك الوقت، ميخائيل غورباتشوف  أن الناتو لن يتوسع ” بوصة واحدة شرقاً.

وقد عارض الصقور هذا الادعاء منذ عقود. ولكن كما أثبتت المصلحة الوطنية الآن ، فإن المادة التي رفع عنها السرية في الآونة الأخيرة أكدت بالفعل أن هذا أقرب ما يكون إلى حقيقة تاريخية، على الرغم من إنكار وجود مثل هذا الوعد على الإطلاق.

ووفقاً للوثائق، تلقى غورباتشوف وغيره من القادة السوفييت ضمانات إضافية بعدم توسع الناتو وتحديداً من الرئيس جورج دبليو بوش، ووزير خارجية ألمانيا الغربية هانز ديتريش غينشر، ومستشار ألمانيا الغربية هيلموت كول، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق روبرت غيتس، والزعيم الفرنسي فرانسوا ميتران، ومارغريت تاتشر، ووزير الخارجية البريطانية دوغلاس هيرد، وحتى الأمين العام لحلف الناتو.

إلى جانب ذلك ، من غير الواضح فيما إذا كانت ألمانيا تعتبر روسيا تهديداً عسكرياً واستراتيجياً شديداً، على الرغم من أن هدف حلف شمال الأطلسي الوحيد هو احتواء روسيا ومواجهتها. في النصف الأول من عام 2018 ، زادت صادرات روسيا من الغاز إلى ألمانيا بنسبة كبيرة بلغت 12.2 بالمائة مقارنة بالنصف الأول من العام السابق. وإجمالاً ، تعد ألمانيا أكبر مشتر للغاز الطبيعي في العالم وقد لا يستمر هذا بوجود أفاق لخطط تمضي قُدُماً في تنفيذ خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي تبلغ تكلفته 11 مليار دولار بين البلدين. في الواقع، حذرت الولايات المتحدة الشركات الألمانية بأنها ستواجه عقوبات إذا استمرت في العمل في مشروع البناء. إذاً،  روسيا لا تشكل تهديداً لأنها “اخترقت” أو “تأمرت” لتقويض ديمقراطية أمريكا غير الموجودة، لأن روسيا وألمانيا قد تشكلان بالفعل تحالفاً مريحاً مبنياً على الاحترام المتبادل، والمال، ووضع سياسات تتعلق بالكثير من الغاز الطبيعي وخطوط الأنابيب.

قد يكون تفكيك حلف الناتو – أو بالأحرى تهديد الولايات المتحدة من الناتو – محاولة من ترامب لإرسال رسالة واضحة إلى ألمانيا. ويبدو أن ألمانيا من جانبها مستعدة للانطلاق بعيداً عن التحالف العسكري، بعد إخفاقها عاماً بعد عام بالوفاء بالتزاماتها المزعومة. كل ذلك من أجل عملية إنشاء بطيء لجيش أوروبي موحد، وفقاً لعلامات واضحة للغاية من أن الولايات المتحدة ليست الشريك العالمي كما تزعم.