دراساتصحيفة البعث

مفهوم “عقيدة” الرئيس الأمريكي

باسل الشيخ محمد

ثمّة تقليد متعارف عليه خلال تعاقب الإدارات الأمريكية، وهذا التقليد هو أن ينشر كل رئيس عقيدة تُسمّى لاحقاً باسمه، توضح هذه العقيدة أبرز توجهات الإدارة الأمريكية لجهة التصدي لمخاطر ما.
من ذلك مثلاً عقيدة هاري ترومان التي تقول بضرورة احتواء الخطر السوفييتي السابق بالقرب من تركيا واليونان، تشبهها عقيدة دوايت إيزنهاور التي وسّعت حدود المواجهة مع الاتحاد السوفييتي السابق لتتصدى لها في الشرق الأوسط، وعقيدة ريتشارد نيكسون التي “سعت إلى دعم الحلفاء الآسيويين في الدفاع عن أنفسهم”. تشبهها عقيدة جيمي كارتر التي هدّدت باللجوء إلى القوة للدفاع عن المصالح الأمريكية في الخليج، بينما كانت عقيدة رونالد ريغان شبيهة بعقيدتي إيزنهاور وترومان لكنها تمحورت حول أفغانستان بدلاً من الشرق الأوسط وتركيا واليونان، والتي لا تبعد كثيراً عن عقيدة بوش الابن.
لم تحمل العقيدة في عهد باراك أوباما اسمه بشكل مباشر، بل عرفت باسم “القيادة من الخلف” والتي لا تسعى إلى تدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراعات في الشرق الأوسط بقدر ما توفر التدريب والتسليح والدعم اللوجستي والسياسي. بينما جاءت عقيدة دونالد ترامب امتداداً لأدبيات الجمهوريين خلال حقبة الحرب الباردة، وتتمثّل عقيدته في: حماية الولايات المتحدة- تأمين الأمريكيين- تعزيز الازدهار الاقتصادي- الحفاظ على السلام بالقوة.
نعثر على نقاط تقاطع عندما نستعرض هذه العقائد التي تشكّل الخطوط العامة لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، فهي من جهة تولي جلّ اهتمامها لشرق العالم، وهي من جهة أخرى تركز على مواجهة قوة إقليمية ما في مناطق قريبة من الشرق، دون أن نسمع أن عقيدة الرئيس الأمريكي تنظر، مثلاً، صوب المساحة الشاسعة لأفريقيا أو لأمريكا الجنوبية.

عن عقيدة ترامب
ظنّ بعض المراقبين أن اهتمام ترامب سينصبّ على دعم بلاده مالياً، مستندين في ذلك إلى خلفيته التجارية وانعدام خبرته في المجال السياسي، لكن عبارته “أمريكا أولاً” كانت تعني أن باقي الأطراف يجب أن تكون تالياً، ولهذا اعتبر روسيا والصين خصمين يمسان بقوة ومصالح أمريكا، ويحاولان سحق أمنها وازدهارها الاقتصادي في النظام العالمي. نلمح أيضاً تركيزاً على دور الاقتصاد بتحقيق شعار “إعادة أمريكا إلى عظمتها”.
ليست هذه العقيدة من بنات أفكار ترامب في واقع الحال، بل هي مستقاة من مستشاره السابق ستيف بانون، ومن وزيره الحالي جيمس ماتيس، ومن مستشاره للأمن القومي هربرت مكماستر، لاحقاً أطاح ترامب بكل من مكماستر وبانون، غير أن عقيدته تلك لم تخرج أيضاً عن عقيدة باراك اوباما “أي القيادة من الخلف”، وذلك على اعتبار أن مفهوم القيادة من الخلف أقل كلفة من الناحية الاقتصادية لجهة المواجهة المباشرة، وهي الفكرة التي تردّد صداها في كلمة ترامب الشهيرة “سوف تدفعون”.
ترمي عقيدة ترامب إلى العودة إلى ما عُرف بالتسوية الأمريكية، والمأخوذة بدورها من وثيقة حقوق عام 1689 التي أصدرها برلمان بريطانيا والتي لا تزال سارية إلى الآن في دول الكومنولث.
ما يهمّنا في تلك الوثيقة هو أن بريطانيا كانت تسعى إلى حكم نفسها كجمهورية، وهذه الوثيقة هي عكس وثيقة روزفلت التي أراد بموجبها التحالف مع بريطانيا سعياً لحكم العالم. تلك الوثيقة أيضاً تتعارض مع عقيدة رونالد ريغان التي سعت إلى تغيير حكومات ونشر الديمقراطية العالمية، فضلاً عن أن عقيدة بوش الأب وبيل كلينتون حاولتا احتواء وإضعاف أوروبا من الناحية الاقتصادية.
إذاً، ومن وجهة نظر واقعية، تعدّ عقيدة ترامب مجاهرة بالبراغماتية دون التذرع بالأدبيات الأخلاقية التي اعتادت الولايات المتحدة على ترويجها. ولعلّ هذا واضح أيضاً في تحليل لغة خطاب دونالد ترامب. إلا أن الأمر أوضح عبر انتهاجه للحمائية، أي حماية البضائع الوطنية من خلال فرض رسوم جمركية باهظة على الدول المصدّرة.
وحالياً، لعبت الحمائية الأمريكية دوراً غير معهود عبر إغلاق الحدود مع المكسيك ودفع المكسيك لكلفة السياج الحدودي، وهذا ليس بالأمر المهمّ على الصعيد الدولي، إلا أن الأرضية الاقتصادية لتفكير ترامب جعلته يعالج العجز في الميزانية الأمريكية (نصف تريليون دولار سنوياً) من خلال بدء حرب تجارية مع الصين، تزامناً مع خطاب استعلائي غير ودود، ولا يبدو أنه يفكر في أن يكون المستقبل قائماً على الشراكة أو وعد للدول الأخرى بفرص استثمارية، وهو التحليل الذي يمكن أن نستشفّ منه كيف يفكر ترامب في العلاقات الدولية!.

عقيدة ترامب والعلاقات الدولية
نتوقف عند عبارة “حماية مصالح الشعب الأمريكي” والتي تشير إلى أن هذه المصالح عرضة للتهديد. وبحسب الباحث توماس رايت من معهد بروكينغز فإن ترامب يرى أن النظام الدولي ظلم الولايات المتحدة (!!!) الأمر الذي يفسّر ازدراء ترامب للمعاهدات والاتفاقيات التجارية مع شركائه الأوروبيين وغير الأوروبيين، فيما يذهب الكاتب الأمريكي جيفري غولدبيرغ إلى أن ترامب، على عكس أوباما، ليس مديناً لأحد بأي اعتذار وليس ملزماً تجاه أي كان بأي التزام، يعتبر غولدبيرغ أن هذه هي عقيدة ترامب غير المعلنة.
ما عساها تكون عقيدة ترامب غير المعلنة؟ أهي انتزاع تأييد دولي عبر القوة الاقتصادية؟ أم “ليدفع الآخرون نيابة عنا”، يتقاطع كلا المفهومان في دمج الاقتصاد مع السياسة، فـ ترامب منذ حملته الانتخابية كان يطالب دول الناتو بدفع مستحقاتهم المالية، ثم ما لبث أن قال بعد توليه سدة الحكم إن الناتو “عفا عليه الزمن”، فهل كان ترامب يسعى إلى إضعاف خصومه اقتصادياً والبدء بإضعاف الناتو تطبيقاً لمبدأ “أمريكا أولاً”؟.
التساؤلات كثيرة لا شك، لكن لا تبدو إجاباتها ضمن منحى إيجابي لا لخصوم أمريكا ولا لحلفائها، كل ما يمكن التفكير به هو أن ترامب أثار فوضى تجارية لم تظهر نتائجها إلى الآن، وإرثاً ثقيلاً من المشكلات لمن سيأتي بعده إلى البيت الأبيض، بحيث بات كثيرون يتساءلون عن كيفية إصلاحه لهذه الكوارث التي لما تنفجر إلى الآن؟!.