دراساتصحيفة البعث

الخلط بين الدين والسياسة

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

هناك مثل شعبي يقول: “الزائد أخو الناقص”، والحقيقة أن الزائد بمعنى الغلو قد يكون في كثير من الحالات أسوأ من الناقص.

حين ننظر إلى سلوك الضالين نجد أن المشكلة الأساسية تتمثّل في المزاودة حتى بالدين أو على الدين، أو المزاودة السياسية باسم الدين، وفي الحالتين هناك إشكالية تثار، وتترتب عليها نتائج قد تكون في غاية الخطورة.

إن مشكلة هؤلاء أن بعضهم يعمدون إلى التناجي، أي التحدث سراً فيما بينهم، بالإثم والعدوان، ولو فكرنا قليلاً لرأينا أن هذا التناجي يتناول شؤون الحياة، أو ما يمكن أن تكون شؤون السياسة، اقتصادية كانت، أو اجتماعية، أو غير ذلك.

ويتضح من هذا أن قيام كل بأداء دوره كراع في المجتمع شيء آخر يعني أن المسؤولية الاجتماعية تتدرج من الوحدة الأصغر في المجتمع وهي الأسرة، لتصل إلى الوحدة الأكبر وهي الدولة، بغض النظر عن حجم هذه الدولة أو الدول.

يقول محمد عابد الجابري في هذا السياق: “نعتقد أن إطلاق المقولة التعميمية الشعارية “الإسلام دين ودولة”– التي يستثمرها أيديولوجياً دعاة الإسلام السياسي– ليس منصفاً ولا لائقاً بالعقيدة الإسلامية ذاتها، فهذه العقيدة بعمقها وأبعادها القيمية ينبغي ألا توضع على مستوى الدولة التي عاشت تلك العقيدة من دونها لقرون، وستبقى لكل زمان ومكان، بينما الدولة ظلت قاصرة إلى يومنا هذا، وارتبط معظمها بالاستبداد والفساد والتقصير والتخلف، وهي قيود وأغلال لن تسمح بأي تقدم، إن بقيت”.

وينتقد د. حسين فوزي النجار في كتابه “الدولة والحكم في الإسلام” القائلين بأن “الإسلام دين ودولة”، ويقول: إن هذه العبارة “دين ودولة” تعني دولة دينية، وهو ما يتنزه عنه الإسلام، ويرى أن الصحيح أن نقول إن “الإسلام دين ودنيا”، ويفسر قوله هذا بأن الإسلام شريعة تقيم للدنيا نظاماً تتكامل فيه الحياة على أكمل ما تكون الحياة، ويبدو أنه يختار هذا التعبير للتخلص من الوصف القائل بأن المسلمين يدعون إلى قيام دولة ثيوقراطية، والدولة الثيوقراطية هي الدولة التي تعلو فيها إرادة الحاكم على كل إرادة سواها، لأنه يستمد سلطانه من الله مباشرة، وهو ما يتنزه عنه الإسلام.

إن السؤال الذي يطرح نفسه في الواقع هو التالي: هل من مبرر ديني أو منطقي للقول بأن الإسلام ليس ديناً فقط، ولكنه “دين ودولة”، أو “دين ودنيا”؟ أليس صحيحاً أن الإسلام يمكن أن يوجد على الأرض حيث توجد دولة أو لا توجد؟ وحيث توجد دولة إسلامية أو لا توجد؟ فلماذا إذاً الربط بين الدين والدولة وكأنهما متلازمان؟ وإذا كانت الدنيا توصف في القرآن الكريم بأنها متاع الغرور، فكيف يستقيم القول عندئذ بأن الإسلام دين ودنيا؟.

يقول د. النجار: إن الإسلام لم يضع نظاماً للحكم، ولم يتناول الشكل أو الأساس الذي تقوم عليه الدولة بأي تفصيل، ولم ترد في القرآن ولا في أحاديث الرسول كلمة دولة، أو ما يشير إلى إقامة دولة، وإن وردت كلمة “الحكم” كثيراً في القرآن، وهذا الذي قاله كله صحيح، وصحيح أيضاً قوله إن الإسلام لم يضع نظاماً للدولة، ولم يأخذ بنظرية للحكم.

 

ما هو الدين؟

يقال لنا إن الإسلام يتضمن: العبادات والمعاملات والقيم، وهذا يعني أنه بالإضافة إلى العبادات هناك أحكام لضبط المعاملات، وأخرى لتحديد القيم الأخلاقية والاجتماعية الكامنة وراء السلوك، وهذه جميعاً ثوابت الدين الذي هو في حد ذاته تعبير عن هذه الثوابت.

وحين نعود إلى الأصل اللغوي لكلمة الدين نجدها في الكلمة السلتية deino بمعنى ثابت، فالدين عقيدة ثابتة، أما الدولة أو نظام الحكم أو البعد السياسي فإنها جميعاً تدخل في نطاق المتغير والمتحول، ولا تتصف بالثبات.

إن عالمية الدعوة الإسلامية هي في حد ذاتها دليل على كونها دينية، وإن ربطها بمفهوم الدولة أو بالسياسة فيه مسّ بكونها دينية، وحين ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية نستطيع أن نفهم طبيعة الخطأ الذي وقع فيه سيد قطب، وأوقع فيه من أخذوا بآرائه حين خلط بين العقيدة الدينية والنظم السياسية، ليخلص إلى اتهام المجتمعات جميعاً بالجاهلية، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، فهو بهذا المنطق تجاهل وجود أكثر من مليار ونصف مليار مسلم يؤمنون بهذا الدين، مثلما تجاهل وجود مؤمنين آخرين من غير المسلمين، وادّعى أيضاً أن جماعته السياسية هي في وضعية اضطهاد تشبه ما كان عليه وضع الرسول ومن آمنوا معه في مكة في بداية الدعوة!.

إن خلطه بين العقيدة الدينية والنظام السياسي جعله يصور الأمور وكأن الإسلام كعقيدة بات غائباً، وأن جماعته هي التي ستعيد هذا الإسلام إلى الوجود، وهذا تصور للأمور لا يمكن القبول به بحال من الأحوال، فالعقيدة الدينية شيء، وطبيعة الأنظمة السياسية القائمة شيء آخر مختلف، والتقوى كأساس للعقيدة الدينية شيء، ومواصفات النظام السياسي والمبادئ التي يفترض أن يقوم عليها شيء آخر، وجماعة الإخوان المسلمين كجماعة دينية غايتها الوعظ والإرشاد شيء، وكحزب سياسي غايته الوصول إلى الإمساك بالسلطة أو منافسة الآخرين عليها شيء آخر، وكذلك هو حال الجماعات التي تدعي أنها سلفية جهادية، فهذه الجماعات بشكل عام تجاوزت البعد الديني الدعوي، وانخرطت في لعبة السياسة انخراطاً جعلها تتحول إلى أدوات للإفساد بدل أن تكون جماعات للإرشاد!!.

وبملاحظة هذه المسألة يقول د. مجيد الراضي في كتابه “الإسلام التجربة التاريخية والمعاصرة”: إن جماعة الإخوان المسلمين ليست سوى حركة سياسية ذات قناع ديني تشد المجتمع إلى الخلف”، كما يقول: “إن الالتقاء الغريب بل الاندماج الكامل لهذه المنظمة بكل ما هو معاد موضوعياً لحركة شعوب المنطقة، هو التعبير الأكثر جلاء عما يمكن أن يلحقه “استغلال الدين”، وكذلك التفسيرات الدينية الخاطئة التي ترى في الثبات وحتى الرجوع إلى الماضي مثلها الأعلى، فهي بإلغائها لحركة التاريخ أو بنقضها لحركة التطور الاجتماعي إنما تريد أن تجمّد الزمن عند لحظة تاريخية معينة، لذا فإنها لا ترى في الحاضر سوى صورة منحطة من الماضي، وتعتبر كل تفكير حر بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار”.

 

مبادىء عامة

لا شك أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحالة هو التالي: أما وضع الإسلام أسساً للنظام السياسي يفترض احترامها كجزء من العقيدة الإسلامية؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن الإسلام وضع مبادىء عامة يفترض أن تحترم في كل زمان ومكان، ولم يعتمد أسساً محددة خارج نطاق تلك المبادىء، وقبل أن نتحدث عن هذه المبادىء العامة يحسن بنا أن نقف عند تلك اللحظة التي توفي فيها الرسول دون أن يوصي بصدد من يخلفه بشيء، وفي هذا الصدد يقول د. مجيد الراضي: إنه من الواضح أن النبي لم يوص بشكل الحكم الذي يليه، كما لم يستخلف أحداً صراحة لتولي أمور المسلمين، وقد نقل عنه قوله: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، أي أن مسألة الحكم عُدّت من شؤون الدنيا، وعليه فإن أقصى رابط بين الحكم والسلطة والعقيدة الدينية إنما يتمثّل في المبادىء العامة التي وردت في الكتاب، إذ إنه من المنطقي أن يهتدي المسلمون بهذه المبادىء.

لو نحن تفكّرنا في الأمر بمعزل عن النزاعات على السلطة التي شهدها المسلمون بعد ذلك لأيقنا بأن امتناع الرسول عن إعطاء توجيه محدد إنما يحمل دلالة محددة، وهي أن على المسلمين أن يهتدوا بالمبادىء العامة المتعلقة بالسلطة كما جاءت في القرآن الكريم، ولا شيء غير ذلك، وعندئذ، علينا أن نعود إلى هذه المبادىء لنهتدي بها، ولنعمل على تجسيدها في دساتيرنا، فما هي هذه المبادىء؟.

– المبدأ الأول هو الشورى:

عن هذا المبدأ يقول محمد عابد الجابري: إنه “لم يتم تقنين، بل لم يتم تطبيق أهم مبدأ سياسي في الإسلام وهو “الشورى” التي ظلت فكرة عامة غير مطبقة، ولم تتبلور في “مؤسسة”، أو أي هيئة تنظيمية في عصور الخلافة الإسلامية على كثرة ما نشأ في هذه الخلافة السلطانية من “دواوين” أخرى مثّلت أدوات تنفيذية للحكام أكثر مما هي تمثيلية لأهل الشورى أو لأهل “الحل والعقد” المختلف على تحديدهم وتعريفهم إلى يومنا”.

إن هذه “الشورى” التي جرى إغفالها طويلاً إنما تعني إسهام الشعب كله في بناء مؤسسات الدولة، وهي بالذات تلك القيم التي نطلق عليها صفة “الديمقراطية”، وأي محاولة لفهم الشورى على نحو ضيق إنما هي افتئات على مبدأ الشورى، إذ إن الحق في ممارسة الشورى لا تختص به فئة من المجتمع دون بقية المجتمع.

أما عن الإطار السياسي للسلطة، فيقول الجابري: إنه “اتضح من اختبارات التاريخ الإسلامي وتجاربه، بما في ذلك العهد النبوي الذي تعتبر دروسه ذات مصداقية مرجعية أكبر لدى مختلف مدارس الاجتهاد الإسلامي ومذاهبه، أن ذلك “البعد السياسي” في الإسلام هو بعد مفتوح قابل لتطبيقات وبدائل متعددة، بحكم طبيعة السياسة ذاتها، المباينة لطبيعة العقيدة الثابتة، وبتعبير آخر، إذا كانت العقيدة من الثوابت، وهي كذلك، فإن السياسة تصبح مباينة لها لكونها أقرب إلى المتغيرات، ولا يمكن إلا أن تعتبر كذلك.

ونحن حين نفكر في الأمر ملياً، وندقق في منطق من يقولون بأنه حيثما وجد المسلمون وجب أن تقوم دولة أو خلافة إسلامية واحدة، وأن عليها أن تتابع الجهاد حتى يصير العالم كله دولة إسلامية واحدة، فلابد أن يستوقفنا أمران: أولهما أن هذا المنطق لا يتفق مع قوله عز وجل: [وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم]، فالتعارف شيء، والاندماج في دولة واحدة شيء آخر، ومعيار الكرامة عند الله إنما هو التقوى، أي العقيدة الدينية، وليس الممارسة السياسية، أو التبعية لهذه السلطة السياسية أو تلك، فالنظام السياسي هو ترتيب أرضي، وكل ما في الأمر أن عليه الالتزام بالمبادىء الأساسية، بدءاً من “الشورى” وما يقترن بها من إطاعة أولي الأمر، أو مفهوم الطاعة، والأمر الثاني أن الإطار السياسي في الإسلام يحترم التعددية الدينية ضمن المجتمع الواحد.

– المبدأ الثاني هو العدالة:

إن المبدأ الثاني الذي يحكم الإطار السياسي أو الممارسة السياسية في الإسلام هو العدالة، ولكن هذا لا يعني أن العدالة تقتصر على القضاء، ولا تشمل تصريف شؤون الناس، أو الإدارة، أو السلطة التنفيذية.

والعدل هو قيمة اجتماعية شاملة لا يتحمّل مسؤوليتها الحاكم وحده، أو الجهاز الحكومي وحده، بل يجب أن يراعيها الجميع في المجتمع.

– المبدأ الثالث هو التسامح:

يأتي التسامح ليعزز مبدأ العدالة كقيمة اجتماعية سلوكية، لذلك فإن مجتمعاً قائماً على الشورى، وعلى العدالة، وعلى التسامح، من شأنه أن يثبّت أولاً وحدة المؤمنين، وثانياً حالة السلام الاجتماعي.

يقول سيّد قطب: إنه إذا حدث أثناء تأدية ما يصفه بـ “الواجب المقدس وشن الجهاد ضد الكفار” أن وجد أخ مسلم نفسه قائماً بأعمال التحريض على الفتنة والعصيان، فإنه لا غرابة في ذلك ولا مسؤولية عليه، وهكذا، فإنه يعطي من عنده شهادة براءة، رغم أن السلوك الموصوف مخالف للتوجيه الإلهي.

وإن التفكير بمنهج ما للحكم، أو السعي من خلال تنظيم ما للوصول إلى الحكم، ليسا مشكلة في حد ذاتهما، ولكن المشكلة تتمثّل بالدفع نحو الإفساد، ومخالفة أوامر الله، وادّعاء أن هذه المخالفة هي تلبية لأوامره سبحانه وتعالى.