دراساتصحيفة البعث

مضيق كيرتش.. تحدّ أوكراني

ترجمة: هيفاء علي

عن موندياليزاسيون 24/1/2019

في نهاية عام 1991، وضع تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق أسس إستراتيجية معادية لروسيا في إطار عمل قوة أمريكية مستميتة لإضعاف روسيا للسيطرة على مواردها وتحييدها كقوة عالمية. وفي هذا الشأن يقول زبيغنيو بريجنسكي، أحد صقور البيت الأبيض ومنظّر السياسة الخارجية الأمريكية: إن الأمر يتعلّق بتقويض التأثير التاريخي لروسيا في محيطها السوفييتي.

ولهذا فإن صميم عقيدة بريجنسكي هي السيطرة على “المحاور الجيوسياسية”، وهي جمهوريات الاتحاد السوفييتي الإستراتيجية السابقة. وترمي إلى إقامة “تعددية جيوسياسية” في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي لمنع عودة روسيا في الحنين لماضيها، والسعي لاستعادة مجالها السياسي. بالنسبة إلى بريجنسكي، يجعل هذا التكوين الجيو- استراتيجي من أوكرانيا أولوية للدبلوماسية الأمريكية لتبرير كل “التلاعب”. ومن أجل كبح أي ميول روسية، أصبحت السيطرة على أوكرانيا هاجساً استراتيجياً لواشنطن، وهنا يدرك المرء لماذا قامت “ثورة” عام 2004 “البرتقالية” وثورة عام 2013 “الميدان”، التي آلت إلى انقلاب 22 شباط عام 2014. وقد نجحت العديد من الأزمات التي تمّت حياكتها بذكاء، ومن ثم أُحبطت لاتهام موسكو بالوقوف وراءها، وآخرها أزمة مضيق  كيرتش.

هذه السيطرة على المحور الأوكراني تعبّر عن نجاح القوة الناعمة الأمريكية، وركوب “الديمقراطية” كأيديولوجية ثورية تحملها منظمات غير حكومية “مدولرة”، وتركز على تغيير النظام من خلال تعويم ودعم التيارات المتطرفة، بما في ذلك النازيون الجدد في أوكرانيا. كطليعة تعمل واشنطن على تنويرها وتنسيقها، لعبت المجموعات شبه العسكرية المتطرفة دوراً حاسماً في الانقلاب القومي المعادي لروسيا، والذي توّج بتاريخ 2 أيار 2014، بمذبحة أوديسا، تحت أنظار الغرب الساهرة.

منذ انتخاب فلاديمير بوتين في آذار 2000، يستند هذا التطور الجيو-سياسي إلى تصور روسيا المعادية بنيوياً، لتغدو مرة أخرى تشكّل “التهديد الرئيسي” في العقيدة الإستراتيجية الأمريكية. يقود بوتين، الذي يُنظر إليه على أنه وريث السوفييتية المثالية، سياسة القوة التي تنطوي على بناء دولة قوية عبر دبلوماسية تركّز على الدفاع عن المصالح الوطنية واستعادة صورة قوة روسيا في مواجهة الهيمنة الأمريكية، ويشهد على ذلك إدارتها للأزمة الأوكرانية.

فمن خلال تبرير تعزيز محور الاتحاد الأوروبي- الناتو، يصبح بناء العدو الرئيسي -روسيا- القوة الدافعة للإستراتيجية الأوكرانية، التي تميّزت بالحادث البحري الروسي-الأوكراني في مضيق كيرتش. ففي صباح 25 تشرين الثاني 2018، انتهكت ثلاث سفن عسكرية أوكرانية الحدود البحرية الروسية، وشاركت في مناورات خطيرة ورفضت المثول لأوامر خفر السواحل الروس. وقع الحادث عند مضيق كيرتش، الذي يفصل بحر آزوف عن البحر الأسود، واستخدم خفر السواحل الروس أسلحتهم لوقف هذه السفن. وقد فتحت موسكو تحقيقاً بشأن انتهاك حدودها، في حين أصدر الرئيس الأوكراني، بترو بوروشنكو، قانوناً جزائياً لمدة 30 يوماً اعتباراً من 28 تشرين الثاني الماضي. كان قراراً مفاجئاً، وغير متناسب مع الحقائق، وقبل كل شيء، غير محايد سياسياً.

وباعتباره امتداداً لخط واشنطن المناهض لروسيا الذي يبرّره “ضم” شبه جزيرة القرم، طالب بوروشنكو بفرض عقوبات جديدة على روسيا بعد حادثة كيرتش. وهكذا، ستصبح روسيا “مذنباً منطقياً” في مواجهة أوكرانيا، التي تتمتّع ببراءة مفترضة. شيطنة روسيا من قبل هستيريا وسائل الإعلام الأمريكية والأوكرانية، يقدم الخط “التوسعي” في موسكو تبريراً مثالياً للزيادة في ميزانيات الدفاع في دول حلف الناتو لمواجهة “التفوق الروسي”، ما يدرّ  أرباحاً طائلة جراء تصدير الأسلحة الأمريكية إلى الدول المناهضة لروسيا، دول أوربا الشرقية، دول البلطيق، بولندا ورومانيا. البلطيق، بولندا، رومانيا التي تشكّل تماسكاً جيو-استراتيجياً خطيراً.

موضوعياً، لا يمكن أن يخدم هذا الحادث مصالح موسكو المكوية بنيران  سياسة عقوبات غير عقلانية، يفرضها الوصيّ الأمريكي وتتجدّد تلقائياً من قبل الدول التابعة. وإنما، تخدم المصالح الأمريكية-الأوكرانية، المحكوم عليها بالزواج القسري منذ الانقلاب!.

فمن جهة، يعزّز هذا الحادث قيادة الولايات المتحدة من خلال تسريع تقارب كييف مع البنيان السياسي والأمني الأوربي-الأطلسي. إن أوكرانيا المنضوية تحت راية الحلف الأطلسي، ستكون أسوأ كابوس سياسي لروسيا ما بعد السوفييتية، حيث تعمل كداعم للتوسع الأوروبي لدرع الدفاع الصاروخي الأمريكي المضاد الذي من شأنه أن يحيّد جزءاً من إمكاناتها النووية الإستراتيجية.

ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحادث يمكن أن ينقذ الرئيس الأوكراني من هزيمة محتملة في الانتخابات الرئاسية المزمعة في آذار 2019، وهو الذي عزف على وتر إيقاظ القومية المناهضة لروسيا أثناء ترشحه لانتخابات  أيار2014 أثناء وقوع الحادث.