رأيصحيفة البعث

العبث داخل الدائرة الحمراء

 

إن كانت الأزمات حالة استثنائية، فإدارتها يجب أن تكون استثنائيّة بالمطلق، ولا يجوز أن تتماهى القوانين وتطبيقاتها بين زمني الاستقرار وعدمه. هذه مسلّمات، وليست اجتهادات سوداويّة.

في أزمتنا التي أنتجتها هذه الحرب القذرة، كان لافتاً حرصنا على عدم إحداث انعطافات حادّة في أدبيات التعاطي العام مع الأعمال واليوميات، فكانت المتغيّرات قسريّة ضاغطة، وليست ذات نفحة إدارية احترازية أو استدراكيّة. من هنا بدت قاسية الوقع رغم أنها من “شروط الأزمة” وطبيعتها، وإلّا كيف تكون طقوس الأزمات؟؟.

من هذه المقدمة الطويلة نسبياً، والتي وجدناها ضرورية خارج سياق إملاءات المباشرة في بناء النصّ، نلج إلى أكبر مشكلة تعترينا حالياً، وهي أننا نعالج أزمتنا بذات تشريعات وقوانين وقرارات حقبة الاستقرار، التي اتسمت بها حياتنا نحن السوريين بعمومها، مع استثناءات في التفاصيل، وربما من هنا تأسست أشكال الخلل التي تعترينا في مواجهة مشكلاتنا، رغم أن لا ثوابت في البنى التشريعيّة الوضعيّة.

ورغم توالي وتعدد الأمثلة، إلّا أن “الطازج” بينها يتعلّق بسوق العملات، وهي الأكثر حساسيّةً على الإطلاق في مجمل ملامح الحياة العامة بكل أبعادها، لأنها كما الهواء أو الرائحة لا تستثني أحداً من مؤثراتها، وها هي ليرتنا تدخل في منعطف وتسحبنا معها إلى حيث كانت مأزومة، وليست متأزّمة، لتخرج أو نُخرجها، ثم تعاود الانتكاس بفعل فاعلين، وهنا لبّ الحكاية بكل ما فيها من مفارقات ومفاجآت وأوجاع.

المتلاعبون ليسوا صغاراً بمدخراتهم، وإن تخلل طيف اللاعبين بعض أصحاب الكتل المالية الصغيرة بفعل الخوف، بل هم “الكبار”.. كبار التجار وكبار الصناعيين وكبار حائزي “الثروة السائلة”، فكانوا سبب أزمة بلد ومواطن، ولعلّهم باتوا يسخرون ممن يسميهم تُجّار أزمات، لأنهم ربما باتوا يفاخرون باللقب.

بالأمس تحرّك سعر صرف الليرة هبوطاً، وهو على كل حال هبوط طفيف، وغير كافٍ لإثارة الهواجس أمام الأدوات المتاحة فعلاً في يد السلطة النقديّة، لكن المريب والمريع والصادم، هو تهافت ” كبار المكتنزين” على سحب إيداعاتهم بالليرة لـ “دولرتها”. الأرقام هائلة، وإحالتها إلى المخابئ السريّة، أو ربما إلى ما وراء البحار، وأسماؤهم شهيرة في عالم البزنس المحلّي، إن على مستوى العاصمة أو المحافظات، وما فعلوه ليس سراً، ولا يمكن أن يكون.. يدركون ذلك، لكنهم فعلوا؟!!.

هنا يبدأ طرح التساؤلات التي تبدو على شكل ألغاز، تتمحور حول السبب الذي يمنع من مساءلة هؤلاء، إن كان بشكل غير مباشر، فليكن بعدم إطلاق أدواتهم لاستثمار كل التسهيلات التي أطلقتها الحكومة، لمن ظهروا بلبوس رجل أعمال وطني، فكانوا بارعين في انتحال الصفة؟؟.

لقد خلق انتهازيو الأزمة بيئة، من شأنها أن تُبطل مفاعيل المعالجات الفنيّة التقليدية لأزمات الاقتصاد، والليرة بالدرجة الأولى، و”تحالفوا في المحصّلة مع كل قوانين الحصار والعقوبات النازلة بمؤسساتنا منذ بداية الأزمة، والمصرفيّة في مقدمتها، لكنهم مازالوا يرفعون بطاقة حمراء للمطالبة بحقوقهم كمواطنين منتمين إلى هذا البلد، وكأن انتماءهم منّة لهم وليس عليهم.

الحقيقة أن الإجراءات والنواظم التشريعيّة، لا تكون كافية أحياناً لمعالجة قضايا قد لا تكون في الحسبان، لكنها تحصل في زمن الأزمات والمحن، ويمسي الإجراء الردعي النابع من صميم الحالة السياديّة للدولة، إجراءً لازماً ومطلوباً بإلحاح، لأن عبث العابثين بات يلامس خطوط الدائرة الحمراء، ربما تكون ذاتها الدائرة التي لامسها الإرهاب، ولا فرق هنا بين الملامسة من الداخل أو الخارج.

الليرة وسوق القطع كانت مثالنا الحاضر، لآنيّته في الواقع، إلّا أن الحالات تتعدد في مطارح كثيرة داخل اقتصاد هذا البلد المستهدف، وللتهريب سيرته المقلقة لكل من يتابع التفاصيل.

لذا لم تعد المحاسبة مع كشف الأوراق علناً، كائناً من كان المرتكب، خياراً قابلاً للدراسة والتمحيص، بل للتطبيق الفوري، فشاغلو مساحات الارتكاب هنا ليسوا مستوردين في حاويات شحن السلع المهرّبة إلى سورية، ولا نظن أنهم يخفون هوياتهم بما أنهم مقتنعون بأن “الغاية تبرر الوسيلة”، ولو اقتضت مصالحهم الغناء في المآتم ومجالس العزاء.

ناظم عيد