صحيفة البعثكلمة البعث

اتساع دوائر النقاش وتنوّعها

يلاحظ المتابع في هذه الأيام انشغال السوريين بالنقاش والحوار، والسجال أيضاً، عبر وسائل متعددة، وفي قطاعات عديدة: محاضرات، ندوات، ملتقيات، في وسائل الإعلام التقليدية، وكذلك في السوشال ميديا حول قضايا التنمية الاجتماعية والسياسية والفكرية.
هذا جميعه يشهد إقبالاً غير مسبوق على المستويات كافة لا في سنيّ الأزمة ولا قبلها، وتلك ظاهرة تستحق التوقف والتأمل بما فيها من اتفاق واختلاف في الوسائل، لكنها في المحصلة تصب في أغلبها لتحقيق هدف وطني أولاً وآخراً.
ويبدو أن السوريين باتوا على قناعة تامة بأن الاحتكام إلى السلاح والتطرف لم يعد مجدياً، فقد تجاوزه الزمن، وقوّضه اقتناع الناس بضرورة الدولة الوطنية وبالحضور القوي لمؤسساتها في مفاصل الحياة كافة، فبدؤوا يحتكمون إلى الحوار وإلى المراجعة النقدية، مستفيدين من منجزات الصمود والانتصار التي حققها توحّد الشعب والجيش والقيادة في سبيل هدف واحد: هذه سورية العريقة والمجيدة أبداً ودائماً.
وحسناً تم الانتقال إلى المنابر التي تتزايد وتتنوّع في الأحزاب والمنظمات والنقابات وسائر مؤسسات الدولة بحثاً عن مستقبل واعد، يشارك فيها بإقبال الأدباء والسياسيون والاقتصاديون ورجال الدين… وسائر الفعاليات الوطنية لتعزيز الحضور الوطني الفاعل في هزيمة العدوان على سورية والمؤامرة على شعبها وأرضها وثوابتها ومستقبلها.
ويلاحظ المتابع والمحلل والمدقق أيضاً أن الإسهام الرئيسي في فتح آفاق الحوار، والمراجعة النقدية، والتخطيط لمستقبل آتٍ قريباً وواعد، يعود للسيد الرئيس بشار الأسد بطروحاته العديدة والجريئة والهادفة والبنّاءة في عدة مناسبات، لعل من أهمها في التأثير في هذا المجال، مجال النقاش الحر والواسع، حديث سيادته أولاً في اجتماعه بمجلس الوزراء بعد التعديل الوزاري الأخير يوم 29/11/2018، وثانياً الحديث المهم جداً في افتتاح أعمال اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي في 7/10/2018 .
ولا شك فقد أثار اتساع دائرة النقاش وتعدد مستوياتها بعض الإشكالات والخلاف في الرأي، ورأى بعضهم أن لهذا التعدد والتنوع والتشعّب غير قليل من المظاهر السلبية… وصولاً إلى الاستنجاد بقول: كثرة الطباخين تحرق الطبخة. فبرزت آراء غير قليلة من الخلاف، ولا مشكلة فيما إذا كان بعضها يعود لأسباب شخصية فهذا طبيعي ومتوقّع في مجتمع ومؤسسات لا يمكن لأحد نكران الآثار الخطيرة عليهما من العدوان والحرب على الوطن والأمة. ولا مشكلة كبيرة أيضاً فيما إذا ظن أحدنا أنه مستهدف من الرأي الآخر، ففي هكذا نقاشات تقف جنباً إلى جنب لغة العقل مع لغة العاطفة لكن في كلتا اللغتين يكون الهدف هو تعزيز الحالة الوطنية.
فمن المعروف أن الابتكارات والاختراعات واجتراح ما يشبه المعجزات لتجاوز المنعطفات الخطيرة في حياة الشعوب والأفراد يتم تحقيقها بنجاح في مناخات الأزمات والتحديات والحاجة والضرورة، أكثر ما ينجح تحقيقها في زمن الوفرة والرخاء، ومن هنا ينظر أغلبنا بترقّب واعد وبأمل كبير إلى إقبال شرائح المجتمع وقطاعات الدولة والأحزاب والمنظمات إلى النقاش والحوار والسجال في مئات الموضوعات التي تهم الشعب، والدولة بسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.
فقد بات الناس على يقين بعد أن صارت البلاد ورشة للبحث عن حلول ناجعة، أن لا ملاذ إلّا الوطن، ولا مدخل إليه إلّا عبر الوطنية في وقت يتعرض فيه مفهوم الوطن في هذه المنطقة من العالم إلى مِحكّ تاريخي وإلى اختبار صعب في عصر العولمة وتحطيم الحدود السياسية، والجغرافية الطبيعية والبشرية لإنضاج وعي طبقي غير بنّاء، وعي ليس كما هو معروف بالمفهوم الماركسي بقدر ما هو مرتبط بالتذرير والتقسيم والتفتيت، وقت يتم اللعب فيه بثلاثية: الحرية – المعارضة – العمالة، تلك الثلاثية التي يطول الحديث فيها، ويتشعّب في تقنيّتها وأهدافها وآثارها.
هذه النقاشات والندوات والمحاضرات والملتقيات بما فيها من تعدد المبادرات، وتنوع المستويات تؤكد ألّا أحد بات مهمّشاً، والجميع مدعوون للإسهام في مشاريع التنمية الإدارية والاجتماعية والفكرية والسياسية، إسهاماً وطنياً بالدرجة الأولى أولاً وآخراً، وليس فقط لمصلحة مؤسسة أو حزب أو مجموعة أو أفراد، فـ “الوطن غالٍ والوطن عزيز”.
وعلى أية حال فهذه النقاشات بما فيها من تباين ستخضع بالمحصلة إلى الاصطفاء المعرفي، وإلى إنضاج الوعي اللازم لبناء المجتمع والدولة، وإلى التفكير بأن الحاجة الماسّة هي أولاً لإعادة بناء الهوية والوعي والانتماء “البُنى الفوقية”، قبل بناء الخرسانة والأسفلت… “البنى التحتية” ثانياً.
هذا ما نحتاج معه لا شك إلى الخروج من أزمة القراءة المؤدية إلى أزمة الثقافة والوعي. “فالقراءة” اليوم تكابد وتعاني أمام السوشال ميديا بما فيها من ضراوة وتسريب وأنانية وتضييع للوقت وللمعرفة مقابل دور المؤسسات ودور الأسرة كخلية أساسية في المجتمع، هذه الميديا تتحدى المؤلفات المهمّة والضرورية لبناء المواطن والوطن.
د. عبد اللطيف عمران