دراساتصحيفة البعث

ما سر الخروج الأمريكي من معاهدة الصواريخ؟

طلال الزعبي
يلاحظ المتتبّع لخط السير الذي انتهجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ توليه مقاليد السلطة في البيت الأبيض، أنه سعى بشكل ممنهج إلى إخراج بلاده من الاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها أسلافه في السلطة، وهذه الاتفاقيات التي نقضها منذ توليه الحكم لا تأخذ شكلاً واحداً أو اتجاهاً واحداً، فهي تتنوع بين اقتصادية، وتجارية، وعسكرية، وسياسية، وحتى أممية، لذلك لا يستطيع المرء أن يستبعد الدافع السياسي الذي يقف وراء كل هذه الانسحابات، لأن ترامب كان يعلن في كل مرة عن شروط سياسية للبقاء في هذه المعاهدة أو تلك، ولم يكن يقبل التفاوض على هذه المعاهدات بشكلها القائم، بل يعمد إلى الانسحاب منها، ثم القول إنه مستعدّ لتوقيع معاهدة جديدة في الشأن ذاته بعد إدخال تعديلات على بعض بنودها، فما الدافع لذلك يا ترى؟ وهل نستطيع أن نقول: إن الشروط الجديدة للمعاهدة التي وقّع عليها ترامب- إن حدث ذلك فعلاً- أفضل من سابقتها؟.
بالنسبة إلى ترامب، وعلى مستوى شخصي، يستطيع المرء أن يلاحظ أن حالة جنون العظمة التي تكاد تسيطر عليه تدفعه دائماً إلى رفض كل ما أقرّه أسلافه، ليقول فيما بعد: إنه الوحيد القادر على تحقيق أهداف واشنطن الحقيقية، بينما لم يستطع غيره فعل ذلك، لذلك نلاحظ أنه دائماً يتحدّث عن تحسين شروط المعاهدة، أو إدخال عناصر جديدة إليها، مع أن العناصر التي يطرحها سبق أن رفضها الطرف الآخر الموقّع على المعاهدة، فما هو الجديد الذي يأتي به ترامب يا ترى؟.
لو بحثنا مثلاً في العناصر الجديدة التي أضافها ترامب إلى معاهدة “نافتا” الموقعة مع كندا والمكسيك، نجد أنها لا تعدو كونها محاولة لإظهار أن ترامب أعاد المعاهدة إلى الحياة بشروط مجحفة للطرفين الآخرين اللذين قبلا بذلك على مضض، والتعديل كان يمكن أن يتم دون نقض المعاهدة في هذه الحالة، ولكن ترامب أراد القول: إنه، وقد جاء من وسط آخر غير الوسط التقليدي الذي يأتي منه الرؤساء عادة وهو الوسط السياسي قبل الوصول إلى البيت الأبيض، استطاع أن يحقق شيئاً أكبر مما حقّقه أسلافه المتمرّسون في السياسة، وخاصة أن الرجل يتعمّد دائماً أن يقارن ما قام به مع ما قام به غيره، فيما يشير إلى عقدة نقص تلاحقه دائماً في هذا الاتجاه، وتجعله مضطراً إلى رفض كل الاتفاقات التي وقّعها القادة السابقون.
هذا الأمر ربّما ينسحب فقط على الاتفاقات التي وقعها سلفه الديمقراطي باراك أوباما، مثل اتفاقية المناخ، والاتفاق النووي مع إيران الذي رفضه ترامب وانسحب منه محاولاً أن يفرض على إيران التفاوض بشأن برنامجها الصاروخي، ولكنها رفضت التفاوض مجدّداً على هذا البرنامج الذي تم تحييده بعلم جميع الأطراف في المفاوضات السابقة التي أفضت إلى الاتفاق النووي مع إيران، بمعنى أن الضمانات التي تعهّدت بها إيران في الاتفاق النووي مع الدول الست لم تكن تشمل أصلاً البرنامج الصاروخي الإيراني، وانسحاب واشنطن منه ربما كان يرمي إلى إجبار إيران على التفاوض بشأن برنامجها الصاروخي للحفاظ على المكاسب التي يفترض أن تجنيها من الاتفاق، في محاولة لإعطاء ترامب نصراً شخصياً في هذا المجال.
ولكن القول: إن ذلك يمكن أن يمتدّ إلى الاتفاق التاريخي الذي وقّعه الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان مع الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف وهو معاهدة الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، فيه مجانبة للواقع، إذ إن تلك الاتفاقية بشهادة جميع الأطراف الدولية تمكّنت في وقتها من إيقاف سباق تسلّح عالمي مرعب، وساهمت في إرساء أجواء من الاستقرار على المستوى العالمي، فما الذي يدفع ترامب الآن إلى التملّص منها، واجتراح الذريعة تلو الأخرى لتبرير انسحابه منها؟.
يبدو أنه ينبغي النظر إلى هذه الاتفاقية بشكل مختلف، حيث إنها الآن باتت تقيّد واشنطن في سعيها إلى تطوير صواريخ دقيقة متوسطة وبعيدة المدى، بعد أن ظهرت في العالم إمكانية قيام بعض الدول بتطوير هذا النوع من السلاح، وخاصة أن هناك معلومات تؤكد أن الصين عمدت في الآونة الأخيرة إلى تطوير مجموعة كبيرة من الصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، وهذا ما كشفه السكرتير الأسبق لمجلس الأمن الروسي أندريه كوكوشين الذي أكد أن الصين أنتجت أكثر من ألف صاروخ من هذا النوع تطول مياه بحري الصين الجنوبي والشرقي، مشيراً إلى أن هذه القوة الصاروخية لا تسمح للولايات المتحدة بنشر مجموعاتها الضاربة من حاملات الطائرات في هذه المناطق “دون عقاب”، حيث تمكّن الجيش الصيني من تشكيل مجموعة كبيرة من الأسلحة عالية الدقة، وخاصة الصواريخ البالستية التي بإمكانها ضرب حاملات الطائرات الأمريكية، والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، وقد عارضت الصين رسمياً انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من هذه المعاهدة، ودعت إلى حل الخلافات بين موسكو وواشنطن، بينما يشير أكثر الخبراء العسكريين إلى أن الانسحاب الأمريكي من المعاهدة ينطلي على أمرين اثنين: أولهما ابتزاز أوروبا، وخاصة ألمانيا، من خلال نشر صواريخ أمريكية جديدة متوسطة المدى على أراضيها، وثانيهما الحاجة الأمريكية إلى تطوير صواريخ كروز تنتهك المعاهدة لردع الصين، فاضطرت إلى البحث عن مبررات الخروج.
ومن هنا لا يستطيع ترامب أو غيره إقناعنا بأن أمر الانسحاب هنا تابع لتعهّدات أطلقها أثناء حملته الانتخابية، أو أنه جاء انسجاماً ربما مع عادته في الانسحاب من هذه الاتفاقيات دون الاكتراث بمصالح الأطراف الأخرى، حتى لو افترضنا أن ذلك كان تمهيداً فقط للانسحاب من هذه المعاهدة، بل الأمر مرتبط بشكل واضح بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي وضعت الصين وروسيا في خانة أكبر خصوم واشنطن في العالم، وهو بالضبط ما يجعل السفن والبوارج الأمريكية تثير بين الفينة والأخرى حفيظة الصين بمرورها في المياه الإقليمية لها عند بحر الصين في محاولة للتأكد من وجود مثل هذه الصواريخ لديها.
وبالمحصلة لا نستطيع القول: إن الرئيس الأمريكي الحالي مختلف في توجّهاته عن الرؤساء السابقين، لأن مؤسسة الرئاسة في أمريكا أصلاً خاضعة لإملاءات الدولة العميقة، ولا تستطيع الخروج عن الأهداف الحقيقية الناظمة لعملها في الهيمنة، والسيطرة، ونهب ثروات الشعوب، وغير ذلك من عناصر الاستعمار، ولكن الأمور التي كانت تغلّفها الإدارات السابقة بشعارات، وعناوين إنسانية، وحقوقية، ومصالح استراتيجية، وغيرها، جاء بها ترامب بشكل فجّ وواضح ودون تزيين، أي أن ما كانت تقوم به تلك الإدارات في السرّ خرج به ترامب إلى العلن، وهذا بالضبط ما يثير حفيظة الحلفاء قبل الخصوم.