ثقافةصحيفة البعث

أثر الصورة الشعرية في البيان.. نتائج نقدية صرفة للمؤلف

 

يذهب د. خلدون سعيد صبح في كتابه “أثر الصورة الشعرية في البيان”، الصادر عن–وزارة الثقافة- الهيئة العامة للكتاب-2018، مذهبا نقديا قائما على قراءته الشعرية عامة لعظيمات القصائد وكبار شعراء الفصحى ومنذ العصر الجاهلي، وما اكتسبه منها من دراية نقدية مباشرة وصل إليها باستنتاجاته القائمة على المقارنة والتحليل والذوق الشخصي، والقراءة المغايرة وهي مجتمعة تشكل أحد أهم أركان تقنيته النقدية التي طورها خوضه في عوالم الشعر، والقصيدة الكلاسيكية “العمود” منه تحديدا، تقنية نقدية بسيطة لكنها فعالة، وقادرة على معالجة تفاصيل أو فنون القصيدة العربية عموما، وبشكل خاص عند كل من الشاعرين طرفة بن العباس-543-569، والعباس بن الأحنف،-750-809- اللذين جعلهما الكاتب مصدري أمثلته في تلك الدراسة الشعرية، لجانب هو الأهم فيها، التي تعطي القصيدة زخما حسيا وبصريا، فالقصائد بشكل عام تحمل ملامح زمنها، ويمكن من خلالها، معرفة أحداث ضللها التاريخ المكتوب بيد المنتصر، فالمكان والزمان والشخوص والوصف والرهافة والقوة، مجتمعة يمكن أن توجد في عدة قصائد عمودية، بل الكثير منها، لأنها من أعمدة البيت الشعري.
“لا شك أن أجمل صورة شعرية، هي التي يأتي بها الخيال الإنساني بكل طاقته، انفعالاته، لجلاء فكرة تبرز في أحاسيس الشاعر وعقله”، الكلام السابق جاء في بداية الكتاب، ليؤكد صبح على أن الشعر خيال بالدرجة الأولى، ولولا الخيال، لما كان هناك فكر وعلم وثقافة، فالشاعرين مثلا مضربا المثل، لم يرتادا جامعات خاصة، وخيالهم القصي، هو من أعطى لقصائدهم هذا الخلود، ونحن نخوض في كتاب يناقش تفصيلا بديعا من تفاصيل القصيدة، دون أن يعمل كما يفعل كثر، بالخوض في كل تلك الصفات مجتمعة، ما يجعل (القراءة النقدية)، والتي نقرأها عند العديد من (النقاد)، غير مفهومة ومكتظة بالمصطلحات الطائشة، التي لا تخدم الدراسة النقدية لا من قريب ولا من بعيد، ما يجعل القارئ لما يكتبوه في هذا المجال، غير واضح ولا مفهوم من الأساس، وهكذا يعتقد القارئ المسكين، أنه هو من لا يَفهم ما يُكتب، وليس ما يُكتب هو الذي لا يفُهم!، وهذه لقطة تؤكد على جدية الناقد في تقديم ما هو حقيقي وواضح، يصل للجميع بلغة بسيطة، ليست تنظيرية ومقعرة، كتلك التي تجدها في العديد من الوسائل الإعلامية سواء في الخارج والداخل، قراءات تتكلم بلغة نقدية لا يفهمها إلا كل طويل عمر، وذلك بسبب تدبيجها بغرائب المفردات، وشائكة الأمثلة، وكل شيء ما عدا النقد- وهذا الحال ليس عاما- لذا ومنذ بداية الكتاب، بل حتى منذ قراءة عنوانه يدرك القارئ بحسه الإنساني أولا، جودة ما يضمه الكتاب بين دفتيه، فالمكتوب كما يًقال :”مبين من عنوانو”، قاعدة نقدية شعبية من أهم القواعد النقدية التي صارت مثلا بين الناس، وهذا أول ما يلفت الانتباه في “أثر الصورة الشعرية في البيان”، تخصيص الناقد المجال لواحدة من شروط الشعرية، وهذا إن دل، فإنه يدل، على معرفة عميقة في الشعرية العربية، فمن يذهب نحو التخصيص في النقد الأدبي، ليس كمن يذهب نحو (التخبيص) في ذات المجال.
الكتاب قليل في عدد صفحاته، 72، صفحة، وهذا ما يلفت الانتباه، فالكاتب أنهى كتابه عندما أيقن أنه قال ما لديه، وكان باستطاعته جعل الكتاب ألف صفحة إن خاض في أكثر من عنوان في القصيدة، لكنه يحترم عقل القارئ عموما بكافة مستوياته، واضعا “سيروا سير أضعفكم” في عقله، وهو يكتب كل فكرة وبشرحها في الكتاب المذكور آنفا، في حين يذهب كثيرون نحو طباعة كتب لا تقل عن ال 500 صفحة، لفكرة نقدية تُقال في 100 صفحة وأقل، فالمختصر المفيد هو المطلوب من الكتاب اليوم تقديمه، خصوصا وأن “القراءة” في تراجع مخيف، وواحدة من صفات هذا القارئ أنه ملول، لذا على الكاتب الذهاب مباشرة إلى تقديم تحليله الشيق لأثر الصور الشعرية في البيان.
عناوين هامة يعمل الكاتب من خلالها، على شرح رأيه وتفنيده لماء جاء فيه ومنها: الخيال عند طرفة والأحنف/التشبيه والسياق/بلاغة التشبيه في سياق الطلل والترحيل، بلاغة التشبيهي في سياق الوصف/بلاغة التشبيه في سياق الحكمة/العناصر المشكلة للتشبيه/ خاتمة ونتائج. وفي كل فقرة يقدم صبح النتيجة التي توصل إليها في الفكرة التي طرحها، دون مزيد إطالة، وبلغة سلسة، بارعة، بسيطة، لا تخيف القارئ، بل إنها تمنحه مناخات جديدة يفتحها أمام ما جاء في الكتاب، وهي مشبعة بالأفكار المتصلة والمتسلسلة كأمثلة لكل من الشاعرين، مدار البحث، شاعران فصل بينهما الزمان، وأعاد لمّ شملهما د. خلدون صبح في كتاب رشيق وشيق، ومن المهم أن تضمه المكتبة الشخصية.
تمّام علي بركات