دراساتصحيفة البعث

ما في جعبة هيغل عن التاريخ



إعداد: علاء العطار

كثيرٌ منّا يظن أن التاريخ ليس سوى جعبةٍ من أحداث وسوابقَ مضت، إلا أن الفيلسوف الألماني غِيُورْغْ فيلهيلم فريدريش هيغل (1770-1831) لم يكن يعتقد أنه مجرد تسلسل عشوائي للأحداث، بل تسلسل عقلاني يتبع غرضاً معيناً، وهذا ما أفضى ببعضهم إلى تكوين اعتقاد خاطئ بأن ما جال بخاطر هيغل هو أن التاريخ يتبع مساراً حُدّد سلفاً، بحيث يمكن لفلسفته أن تكشف بطريقة ما مسار الأحداث في المستقبل. وغالباً ما صوحبَ هذا الاعتقاد الخاطئ باتهام هيغل بالسعي لفرض مخططه الميتافيزيقي على الحقائق التاريخية لتتوافق مع نظريته، لكن هذه رؤى خاطئة بالتأكيد.

حقيقةً، يمكن للتاريخ أن يوضح فلسفة هيغل بمجملها، وهو ما بيّنه المفكر والكاتب النرويجي جوستاين غاردر بقوله: “يعني مصطلح الفلسفة عند هيغل منهجاً لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، لذا يبدو من شبه المستحيل التكلم عنه دون التحدث عن تاريخ البشر”. والماضي بالنسبة لهيغل مُصان في الحاضر إلى حدّ أنه شكّل الحاضر من حيث تطوير الوعي الذاتي بحرية الإنسان التي نعرفها اليوم.

هيغل ونظريته التاريخية

تَرِد فلسفة التاريخ عند هيغل بوضوح في محاضراته حول فلسفة تاريخ العالم، التي قدّمها في جامعة برلين في الأعوام 1822 و1828 و1830، وفي مقدمته التي وضعها لتلك المحاضرات، قال: إن “العقل يحكم التاريخ” لأن “العقل يحكم العالم”، وعليه فتاريخ العالم هو رحلة العقل، ويمكن اعتبار هذه المقولة تلخيصاً لفلسفة هيغل التاريخية.

ماذا تعني عبارة “العقل يحكم التاريخ” عند هيغل؟ يدور ببال هيغل فكرةٌ “غائية”، بمعنى أن التاريخ يتوافق مع هدف معين أو خطة معينة، ويقارن ذلك بمفهوم “العناية الإلهية” في العقيدة المسيحية، ويتيح لنا الفهم الفلسفي لتطور التاريخ استيعاب طبيعة وغرض ما سماه هيغل بالـ “غايست” (Geist)، والتي تعني الروح أو العقل.

وغاية التاريخ في اعتباره هي تقدّم الوعي بالحرية، وهذا التقدّم عقلاني بقدر ما يتوافق مع تطور الوعي، وهو تقدّم الوعي الذاتي “للغايست” (الروح) بذاتها أي “بحريتها”، لأن الحرية جوهر الروح. ويشير هيغل أيضاً إلى “الغايست” على أنها “روح العالم”، التي تُميط اللثام عن نفسها من خلال الوعي الإنساني، كما يتجلى من خلال ثقافة المجتمع، خاصةً فنَّهُ ودينه وفلسفته (يصف هيغل هذا الثالوث بأنه تعبيرٌ عن “الروح المطلقة”). وكما يوضح هيغل في كتابه “فنومينولوجيا الروح” (1807)، الروح هي “الحياة الأخلاقية للأمة”، ومن ثمّة، لا يحدث تقدّمٌ عقلاني في التاريخ إلا بقدر ما يحدث تقدّمٌ في الوعي الذاتي بروح العالم عبر الثقافة الإنسانية من حيث الوعي بالحرية.

لكن من الأهمية بمكان إدراك أن هيغل لا يعني بـ”الحرية” مجرد القدرة المطلقة على القيام بكل ما نحب، ففي كتابه “أصول فلسفة الحق” (1820)، سمى هذا النوع من الحرية “الحرية السلبية” وعدّها طريقة غير ناضجة فكرياً لفهم “الحرية”، وما يقصده بالحرية هو أقرب إلى فكرة إيمانويل كانط، التي يكون فيها المواطن “الفاعل” الحرّ هو ذلك الذي ينتقي خياراته بوعي وفقاً للمبادئ العالمية والقوانين الأخلاقية، والذي لا يسعى فقط إلى تحقيق رغباته الشخصية، ومن هذا المنظور يدّعي هيغل أنه إذا سعى أفراد دولة ما إلى إشباع رغباتهم فقط، سيؤدي ذلك إلى انهيار الأمة في نهاية المطاف.

والنقطة الحاسمة في المفهوم “الهيغيلي” هي أن روح العالم ليس لديها هدف واعٍ ترمي إلى تحقيقه، بل لا يُعرف الهدف إلا بتحقيق الروح لغايتها، أي الحرية، لذا لا يمكن فهم هدف التاريخ إلا على نحو رجعي، بمعنى أنه ليفهم المرء التطور التاريخي، عليه أنْ يعرف النتيجة حتى يتتبع العوامل التي أدتْ إليها.

ومن هذا المنطلق لا يعمد هيغل إلى شرح تأثير الماضي على الحاضر وحسب، بل وأيضاً تأثير الحاضر على تفسيرنا للماضي، ويؤكد أن مهمة الفلسفة ليست التنبؤ أو التوقع، فالفلسفة تصل متأخرة جداً على الدوام، وهناك مقولة شهيرة له تشرح ذلك، وهي “بومة مينيرفا لا تحلق إلا عند الغسق”، ومينيرفا هي آلهة الحكمة عند الرومان، وبعبارة أخرى، ليس باستطاعة الفلسفة (أو الحكمة) إلا أن تُحلّل التاريخ بنحو رجعي ومن منظور الحاضر.

ولمّا كان العقل حاكماً للتاريخ، فلا بد له أن يسير وفق منهج لمسيرة الأحداث التي تبدو منفصلة في الظاهر، ففعلُ العقل في التاريخ عند هيغل هو فعلٌ ديالكتيكي، وغالباً ما توصف الديالكتيكية الهيغيلية على النحو الآتي: “كلّ مرحلة أو حالة هي فكرة تحمل بذاتها تناقضاتها الذاتية، ما يؤدي لأن يحلّ نقيضها محلها، وينشب بين الفكرة ونقيضها صراعٌ ينتهي بتشكيلهما معاً فكرةً جديدة تجمع بين عناصر الاثنين – أي الجمعية”، وبالتالي، فالعملية الديالكتيكية عند هيغل فيها تضارب بين المفهوم ونقيضه الخارجي، الذي يتطور إلى نقيضٍ داخليٍّ، حيث يتصارع المفهوم مع ذاته، وعبر هذا الصراع يُقهر المفهوم، وفي الآن ذاته يُصان في اتحادٍ مع نقيضه في مستوى أسمى، من ثم يخضع المفهوم الجديد الناتج بهذه الطريقة لنفس العملية مرة أخرى، وهكذا دواليك، وبناء عليه، يتقدم التاريخ على مسار حلزوني.

الوعي بالحرية في نظرية التاريخ

قسّم هيغل تاريخ العالم إلى ثلاث حقب كبرى لكيفيات تقدّم الوعي بالحرية، في العصر الاستبدادي، الذي اعتقد بمبالغة فظَّة أنه من سمات “العالم الشرقي” ما قبل اليوناني، يعرف الشعب أن هناك شخصاً حُرّاً واحداً هو الحاكم أو الامبراطور المستبد أو الفرعون الطاغية، ثم عرف الإغريق والرومان، “العالم اليوناني- الروماني”، أن بعض الأشخاص أحرار، وهم المواطنون، في حين كانوا ينظرون إلى باقي الأمم على أنهم همج، فاتخذوا من أسراهم عبيداً لهم، وأخيراً، عرفت الشعوب الجرمانية، “العالم الغربي”، بتأثير من العقيدة المسيحية أن جميع البشر أحرار، وبالتالي تطوّرت روح العالم بشكل ديالكتيكي على مرّ التاريخ من خلال سلسلة من الصراعات مع ذاتها، ولذلك كانت كلّ مرحلة ضرورية كلياً في تطوير وعي الروح بذاتها، ولكن لا يمكن إدراك ضرورة كل مرحلة إلا على نحو رجعي.

لكن من الضروري استيعابُ أن هيغل لم يُرد فقط أن يُبيّن حقيقة أن حجم الحرية قد ازداد على مدار التاريخ، بل إن مفهوم الحرية نفسه قد تغير جذرياً، فإنْ حدث تطوّرٌ في مفهوم الحرية، سيحدث أيضاً تطوّرٌ في طبيعة الروح، لأن الحرية هي جوهر الروح.

وهذا التقسيم لا ينم عن مغالاة في تمجيد أوروبا وحسب، وإنما عن عنصريةٍ وتعصّب عرقي، حيث يتبيّن للبعض أن أوروبا، خاصة ألمانيا، في اعتبار هيغل هي التجسيد النهائي “للفكرة المطلقة” والتجسيد المطلق “للحرية”، وهذا أمر يُناقض نظرية الديالكتيك عنده، فهو يؤمن بإفراطٍ أن الروح في ظل المسيحية بلغت غايتها في الوعي الذاتي بالحرية، وحدث التحرر النهائي لها، وكأن التاريخ انتهى في تلك الحقبة وانحصر في المجتمع الجرماني الذي تحققت الغاية فيه على حدّ تعبيره، وعبّر عن ذلك بقوله: “فعلى هذه العتبة الأخيرة لتاريخ الروح الأوروبية، تنبثق أخيراً الإرادة الحرة المحضة التي تريد ذاتها وتعرف ما تريد، وبذلك يقف الإنسان أول مرة على رأسه، ويتماثل العالم مع فكرة الفلسفة، وإن فلسفة التاريخ التي مبدؤها تقدّم الوعي بالحرية تختم بهذا الحدث”.

المصادر:

– هيغل، محاضرات في تاريخ الفلسفة (1837).

– جوناثان ري، الموسوعة الفلسفية المختصرة (1960).

– د. منيرة محمد، جدل الحرية والتاريخ عند هيغل، مجلة جامعة دمشق- المجلد 30- العدد 1+ 2– 2014.

– هيغل، فنومينولوجيا الروح (1807).

– هيغل، أصول فلسفة الحق (1820).