الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

إلى الوراء .. سر!؟


د. نهلة عيسى

 الوراء في بلادنا, فعل تام, وكل ما عداه فعل ناقص أو مبني للمجهول! لذلك لا تسألوني: لماذا أبدو دائماً غاضبة؟ الغضب في بلادي صواب, لأن كل الشعوب تسير إلى الأمام, ونحن أحياناً نصر على السير إلى الوراء, والمشكلة أن الوراء لم يعد فرخاً صغيراً, بل بات أخطبوطاً, وما أدرانا ما يخفيه بين أذرعه.. الأخطبوط!؟

غاضبة؟ الغضب أصبح اكتمالياً, سموه اكتمال الاضطرار, اكتمال القلة, واكتمال غياب الند النقيض, غياب المرآة, غياب البديل, غياب المهماز على العدو نحو السماء, ولا تقولوا لي: الحافز ليس مولوداً, هو قبل البشر موجود, وصراع قابيل وهابيل مثال! سأرد: صراع قابيل وهابيل, يؤكد الاضطرار, لأن الوفرة نقيض الاقتتال, لأنه لا يمكن لأحد أن يخرج إلى الصيد, وكلبه يعبث ببقايا الفرائس, لأن الكلب سيرخي الذنب ويكتم في رئتيه النباح, يا أصدقائي: الوفرة خيار, ولم يكن أمام قابيل وهابيل خيار!

وحده نوح من اختار قبل الطوفان, ووضع على السفينة من كل نوع اثنين, ولكن ماذا يفعل أمثالنا ممن داهمهم الطوفان فوقعوا في شباك الصيادين, وباتت كل حياتهم أسئلة عن ما كان وما صار؟ عن علاقة الشمس بالنهار, وعلاقة الربيع بالانتحار, والريح بالشجر, والوفرة بالضجر, والقلة بالحيرة والغضب؟ وعن الكون الذي يعمره اثنان, لكن أين, في أي مكان, في أي زمان, ووسط أي أرض, بل أين إبليس الذي زين لهما الأرض مقراً؟ يا أصدقائي: العيش في شباك الصيادين والأسئلة مراراً, وذعراً وهذياناً, وكل الأشياء بالنسبة للمذعور ضباب, وظلال أفاعٍ, ومصاصو دماء, وسير إلى وراء الوراء!.

هل تريدون أجوبة؟ إليكم الأجوبة: سكاكين الخيبة تمزقنا قطعاً, ونحن على ظهر شعرة, لا نملك خياراً, والطريق مات, والبشر, والشجر, والرصيف, والسفر, والرحيل, ونحن مقيمون في قاعة انتظار, بلا أحد, سوى صوت رجل يخاطب الرب, يسأله: لماذا غامر آدم بأكل التفاح, تراه من الضجر, ولم عوقب بالنزول إلى الأرض!؟ والغريب أن أول ما فعله, هو زرع التفاح, فقضينا العمر نأكل من الشجر المحرم, حتى وصلنا زمناً أصبح كل ما نأكله محرماً, ترانا نكفّر عن ذنوب آدم, أم ترانا فعلنا بأنفسنا ما فعل آدم!؟

لا تستعجلوا الرحيل, لم تنته الأجوبة: نحن في العراء, بلا قبعة, ولا مظلة, ولا وجوه حانية, نرتعش من البرد, والهتاف ليس بديلاً للدفء, الهتاف سلة مهملات ترمى فيها الحقيقة, ويتسيد فيها الصمم الغد, ليبيع ويشتري أعمارنا, وليضع الحجب على البصيرة والبصر, فلا ندري من باع الوطن, ومن جعله مقبرة مسورة بالميكرفونات, تمجد الكراهية, وماضياً لم يكن مجيداً على عكس ما نظن, ومن جعل الموت أرخص ما فيه, من صيرنا كلنا مجرد أشباح تهيم في الطرقات مذعورة.

والجريمة أن الجروح لم تعد قصاصاً, بل مهرجاناً يرتاده الفجار, التجار, القراصنة, يعقدون المزايدات والمناقصات, ويتبادلون الهدايا, ويعتلون المنصات يطالبوننا بالصبر, بينما يتلصص على حفلاتهم لصوص صغار, يحلمون بعالم الكبار, ويظنون أن الهتاف فوق دمائنا وسيلة صعود, وسيلة ارتقاء, ربما لأننا صامتون منذ أبد الأبد, نتوهم أن دعاءنا في سرنا على من باع الوطن, يمكن أن يرسم خارطة جديدة للوطن .

لكن صدقوني: نحن واهمون, لأن العابرين فوق جروحنا سيكملون المسير إلى الأمام, بينما سنكمل نحن سيرنا إلى الوراء, ولا حل للوراء في بلادنا سوى أن نغير الأحذية, وأن نغافل غفلتنا, ومن ثم نشد الرحال إلى الغد الذي نريد, رغماً عن أنف من يجمّلون الأمس, وليسقط في الطريق منا ألف, مليون شهيد, في النهاية سيصل بعضنا إلى الغد الذي بنا يليق, وسنرى في عيونهم ما كان حلمنا, وما كنا نريده, وما كنا نحب.