ثقافةصحيفة البعث

وعي العروبة في الشعر العربي ماضيا وحاضرا

 

“قراءات في الشعر والعروبة، من الجاهلية حتى القرن العشرين”، العنوان الذي اختاره د. “فاروق اسليم” لكتابه الصادر عن الهيئة العمة للكتاب -وزارة الثقافة-منتخبا فيه خمس محاضرات ودراسات بحثية، كان قد ألقاها في كل من جامعتي حلب والإمارات العربية المتحدة، عدا عن كونها نشرت في عدد من المجلات الأدبية والعلمية المحكمة، لتكون ما شغل به كتابه وعقله.
الكتاب ومن عنوانه يعطي انطباعا عن طبيعة البحوث التي خاض فيها “اسليم” وهي على التوالي :
(الوعي والتاريخ في شعر الأعشى الكبير، العروبة نموذجا- وعي العروبة في شعر أبو فراس الحمداني- وعي العروبة في شعر أسامة بن منقذ وطلائع بن رزيك- وعي العروبة في شعر الشهيد عمر حمد- الصحراء والوعي العروبي قي شعر بدوي الجبل).
ونلاحظ من حضور عبارة” وعي العروبة” في كل من الأبحاث الخمسة لشعراء ينتمون لعصور مختلفة، تبدأ بالعصر (الجاهلي) وهو ما يصفه الكاتب بكونه المَعلمُ الثقافي الأول، حيث عبر عنه القدماء بـ”ديوان العرب”، وفي الواقع لا يزال هذا الوصف هو الحاضر حتى اللحظة في الوجدان العربي، باعتبار الشعر هو الفن الأكثر التصاقا بوجدان العربي وروحه، خصوصا وأن حضور وعي ومركزية العروبة في التشكيل الحضاري للأمة العربية، كان بارزا فيه الوعي العربي الجمعي، وذلك في دائرة مقاومة العرب ومنذ العصر (الجاهلي) للعدوان الأجنبي أيا يكن، حتى أن هاتين السمتين، كانتا معلمين ظاهرين في وعي الشعراء العرب، وبالتأكيد إن تعبير الشعر عن الوعي، ليس تعبيرا فكريا أو فلسفيا، بل هو تعبير فني وجمالي، يخاطب المشاعر والأحاسيس ليبعث في نفس المتلقي، ميولا ثقافية وفكرية نحو ما ينحاز إليه الشاعر. هذا ما يؤكده الكاتب من جهة التسليم بأن قراءة الأمة العربية لتراثها في كل عصر، تعبر عن مستوى وعيها التاريخي، للتحديات التي تجابهها، كما أن استحضار العرب لتراثهم في دراستهم، يخضع بل يجب أن يخضع للنقد والاصطفاء وذلك بغية توظيفه في معركة الأمة، من أجل إنجاز المشروع العربي القومي، المفضي إلى التحرر وتحقيق الوحدة والعدالة.
يخوض المبحث الأول الواقع تحت عنوان “الشعر الجاهلي مصدرا للتاريخ والوعي” بكون هذا الشعر مصدر رئيس لتاريخ العرب ووعيهم قبل الإسلام، وهذا رأي مغاير لمن يرى قلة القيمة التاريخية للشعر الجاهلي، بوصفه تراثا شعريا شفاهيا، انتقل أكثره بالرواية، من زمن إنشاده إلى عصر تدوينه الواسع، في القرنين الثاني والثالث الهجري، ويضرب “اسليم” عدة أمثلة بل دلائل على هذه القيمة التاريخية لهذه المرحلة من الوعي الشعري العربي المبكر لمفهوم العروبة، منها: للشعر الجاهلي دلالات معرفية لا تقل أهمية عن دلالاته الفنية والجمالية وطرائق التعبير فيه، التي تجعله غنيا بالإخبار عن الأحداث وبالإفصاح عن أنماط الحياة ووعيها فنا وجمالا واجتماعا/ ازدياد أهمية النص الشعري الجاهلي بازدياد أهميته في البيئة المنتجة له، فهو المجال الإبداعي الفائق، والمعلم الثقافي الرئيس في عصره/ أهمية النص الشعري الجاهلي، الذي تزداد أهميته بتوثيق نسبته إلى عصره ومبدعه، فقيمته التاريخية مؤسسة على صحة نسبه.
هذه وغيرها من الدلائل التي تؤكد غنى هذا الشعر وتنوع إبداعه لإنضاج الفكرة التي يذهب الكاتب في الكتاب الآنف الذكر نحو تأكيدها، ضاربا أمثلته من شعر العديد من الشعراء العرب وفي مختلف العصور، ومنهم الأعشى الكبير ووعيه لهذه المهمة الجسيمة باكرا، فالقراءة المتأنية في شرح ديوان الأعشى، تُظهر للشاعر نفسا كريمة، أبية، وفكرا نيرا، وتوجها عربيا تحو توحيد الأمة العربية، ومقاومة العدوان الأجنبي عليها، ومما قاله في المديح الذي تتضمنه تلك الفكرة:
فمن مبلغ وائلا قومنا وأعني بذلك بكرا وجُمارا
فدونكم ربكم حالفوه إذا ظاهر الملك قوما ظهارا
فإن الإله حباكم به إذا اقتسم القوم أمرا كبارا
فلأن لكم قربة عزة ووسطكم مُلكه واستشارا.
ونلاحظ في الأبيات السابقة التي يمدح فيها أحد قيس بن معد يكرب القحطاني، تجاوزا للعصبية القبلية ولمهمة الشاعر المُتكسب عادة بالمديح، وفيها دعوة واضحة إلى الوحدة بين الشمال والجنوب بزعامة قيس، وإلى الانضواء تحت راية سلطانه، فبذلك ينالون العز، ويردعون أي معتدٍ وطامع محتمل.
الأمر ذاته، ينسحب أيضا على وعي فكرة العروبة عند الشاعر البديع أبو فراس الحمداني، الذي كان فارسا وأميرا ومن أسرة عربية أقامت دولة، عنوانها الحضاري البارز هو: تحدي الضعف العربي ومواجهة الروم، فجاء شعره خير تدوين أدبي لأحداث عصره، ولوعيه العربي لها، وهو يرى ذلك من وظائف الشعر بقوله:
الشعر ديوان العرب أبدا وعنوان النسب
والمعروف عن أبو فراس الحمداني أنه عاش في عصر اضطربت فيه الخلافة العباسية (320-357ه)، وغدت عاجزة عن مد سلطانها على سماء بغداد عاصمتها، فانفرط عقد الأمة سياسيا، ونتج عن ذلك اضطرابات سياسية، أنهكت الأمة، وجعلتها مطمعا للفردية والانقسام بعد أن كانت من الأمم التي يُحسب لها ألف حساب، وها هو الشاعر الأهم المتنبي يؤكد هذا في قوله مخاطبا سيف الدولة:
ليس إلاك يا علي همام سيفه دون عرضه مسلول
كيف لا يأمن العراق ومصر وسراياك دونها والخيول.
تركنا الخوض في بقية العناوين للقارئ، الذي لا ريب سيجد ما يمتعه ويفيده بين طيات الكتاب، وفي الواقع إن وعي د. “فاروق اسليم” لهذه الثيمة “وعي العروبة المبكر في الشعر العربي”، والعمل على تأكيدها من خلال هذا الشعر، الذي بالتأكيد يمكن اعتباره مرآة عصره، هو عمل يستحق الشكر، خصوصا في الظروف الصعبة التي تمر بها هذه الأمة اليوم، وتلك الخطوب التي تتناوب عليها، ماهي إلا الدليل الدامغ على أن اجتماع هذه الأمة على قلب رجل واحد، سيجعل اعتى قوى العالم يرتجف قصب أقدامها، وهي ترى لهذا البحر المتلاطم الأمواج، من العزة والكبرياء والأنفة، والسمو والرفعة، كلها مرفوعة بحد العلم والسيف، وهو ما أخاف في الماضي أعدائها، ولا زال حتى اليوم يؤرق منامهم.
تمّام علي بركات